هل فكر أحدكم كيف يرجع عجلة الزمن إلى الخلف ؟ أكاد أجزم أنه لا يوجد أحد لم يفكر في هذا الأمر و إنْ لزمنٍ معين يحتل جزءا من ذاكرته الحياتية ، أو الثقافية أو التاريخية . إن رغبتم في العودة إلى ثلاثمائة عام مضت ما عليكم سوى زيارة بنسلفانيا حيث تعيش على أطرافها طائفة تدعى الـ آمِش ، التي أوقفت عجلة الزمن منذ ذلك العصر و انفصلت تماما عما تلاه ، إنهم معتزلة العصر أو ( السلفية ) المسيحية و لكن بالمعنى الجميل للكلمة .
إنهم قوم آمنوا بربهم و كتابهم و زهدوا في الحياة الدنيا و سخروا أرواحهم للعبادة و الصلاة و العمل ، انفصلوا عن الواقع ، و اعتزلوا الحياة العصرية و بنوا لهم مجتمعا خاصا بهم و معزولا عن باقي أبناء جلدتهم . يعيشون ما قد نسميه مجازا في جمهورية أفلاطون . يمارسون حياتهم في مزارع شاسعة يعتمدون فيها على العمل في الحرف اليدوية كالزراعة و النجارة و الخياطة و تربية الماشية . مهنٌ يعمل بها الرجال بينما يقتصر دور المرأة على العمل بالمنزل و تربية الأبناء و تعليمهم ، و لا ينقطعون عن زيارة الكنيسة رجالا و نساءا و أطفالا . منازلهم الكبيرة تحتوي العائلة من الجد و حتى الأحفاد و من يليهم، فإن زاد عدد أفراد الأسرة و احتاجت العائلة لتوسعة منزلها تبني منزلا صغيرا ملحقا بمحيط المنزل الكبير لأحد أبنائها الذي تزوج و أنجب و احتاج لمساحة إضافية للعيش ، ولكن العائلة الكبيرة تبقى متماسكة جدا و تجتمع جميعا في الغرفة الرئيسية عند تناول الطعام أو في الفصل الدراسي لأبناء العائلة أو في غرفة المعيشة حيث تجتمع الأجيال الثلاثة.
لا يوجد لديهم ما يسمى تحديد النسل ، فهذا ما يحرمه الإنجيل - لذا فإن العائلات تتناسل بشكل كبير و ترتبط بشكل حميم ، و هذا الارتباط لا يقتصر على الترابط بين أفراد العائلة الواحدة بل يشمل جميع أفراد الطائفة حيث تشيع بينهم روح التعاون و الألفة و المحبة . و إذا ما احتاج أحد إلى المساعدة هبت الطائفة جميعها للوقوف إلى جانبه و إنقاذه من محنته . نادرا ما يمتلكون النقود ، فهم لا يحتاجونها بشكل رئيسي حيث أن حيواناتهم و مزارعهم توفر لهم مستلزمات الحياة و ملابسهم هي نفسها تلك الملابس التقليدية البسيطة التي كان يرتديها الناس قبل ثلاثمائة عام ، لذا فلا حاجة لهم إلى النقود التي تتطلبها الحياة العصرية لمواكبة الزمن .
إذا مرض أحدهم ، اجتمع أفراد الطائفة يقرأون له التراتيل و الصلوات و يتوسلون إلى الله أن يشفيه ، و ترتسم علامات الرضا على وجه المصاب و أهله ، رضا بقدر الله و تواصلا مع ذاته العليا كي يرحمه و يشفيه . لم تدخل الآلة إلى مناطقهم ، فلا ترى أسلاكا للكهرباء أو الهاتف لذا لا وجود لأجهزة كالتلفاز أو أدوات المطبخ أو وسائل الترفيه و غيرها ، كل ذلك يدخل ضمن البدع التي لم ينص عليها الإنجيل لذا فإنهم يتجنبونها تماما تجنبا لمعصية الخالق و البقاء مخلصين له و لدينه . كما لا توجد لديهم سيارات فهم يعتمدون على العربات التي تجرها الخيول ، حتى أنهم يحرمون ركوب الدراجة الهوائية بالعجلتين و يجدونها مخالفة لشريعة الدين . رجالهم يطلقون لحاهم و يحلقون شنباتهم ، و لهم قصات معينة للشعر و هي القصات التقليدية القديمة و نسائهم محجبات و يرتدين الملابس المحتشمة .
إذا أراد أحدهم تجربة حياة المدينة فإنهم لا يقفون ضد رغبته ، لكنهم يودعونه الوداع الأخير متمنين له التوفيق في اختياره و داعين الله أن يغفر له ، فيرحل عنهم و لا يعود مرة أخرى . هناك حيث الطبيعة العذراء و الأخلاق السامية لا تكاد تلمس أي نوع من الحقد، التسلط ، الغيرة ، حب المال ، الاستبداد ، حب الذات ، أو أي من تلك الأمراض النفسية و الأخلاقية التي تشكل الشخصية المدنية في العصر الحديث – هي بكل بساطة حياة أقرب للبدائية منها للحياة الحديثة ، و لا تزال الشخصية الآمشية شخصية بريئة طاهرة صوفية لم تلوثها ملوثات الحضارة و لا يزال أفرادها يعيشون بأمان و اطمئنان و راحة البال ، يصلون إلى درجة الصفاء و ربما النيرفانا .