طالما كانت الشعوب خرافا ضالة ، يسوقونها كيفما يشاءون ..!!
حوار : فائز الحداد
ترى
و لا ترى ما يشبهها هي
أو لا يشبهها
حين غادر الهدوء سكينته
و غاب عن صمتها الصواب
" فواغي "
أين تكمن أهمية النص الشعري .. ككائن حي وعالم شاسع يسكننا .. وكيف يمكن أن نعبر عنه في خساراتنا الكبيرة ..؟
بمنأى عن هيئة الشكل والتكوين ومايلتحق به من اكسسوارات ومواد تجميل أقول : أن النص الشعري يقاس .. بمقدار شعريته كقيمة عليا وبامكانيات الفنية في خلق المعنى والجمال ، ووفق هذ التصور لا أرى ابداعا راكزا بدون أصالة متجدرة وروح تواقة للجديد المدهش دائما ، مؤمنا بدون أدنى شك بأن لاحداثة مبدعة بدون قدامة مبدعة ايضا .. فالشاعر شاعر اينما حل أو رحل ، ويستطيع أن يكتب شعرا ويبدع فيه متى ما امتلك الاداة وسبر اسرار القصيدة ، استنادا الى موهبته ومرجعياته وثقافته التكوينية ..
والشاعرة المبدعة فواغي القاسمي واحدة من ابرز الاسماء الشعرية العربية التي استطاعت أن ثتبت جدارتها الشعرية في المشهد الشعري العربي سواء في القصيدة الكلاسكية أو في القصيدة الحديثة ، شاهدها الواقع النشري والنقدي كدلائل على منجزها المؤشرة بيانيا على الصعيدين القرائي والنقدي معا . فهي تدرك تماما خطورة قيمة الشعر ودوره الانساني الخلاق في صناعة الحياة ، كما وتدرك فنيا دور وجرس المفردة في الجملة الشعرية باستهدافها للجمال والمعنى . فأنا أجدها دون مبالغة فنانة تشكيلية شعرية سابرة للصورة واللون كما وأجدها مخرجةشعرية سيميائية متميزة في تقديم النادر الجديد .
لقد شدتني هذه الانسانة الشاعرة في جل ما قرأته لها وسحبتني الى قرار الكتابة عنها بكل اعجاب وحب .. الا أنني أجد بعض ما كتب عنها من دراسات نقدية ظل يدور حول أطراف معينها ولم يبلغ عمق اسرار نصها ، الذي يحتاج الكثير من الامعان والتوقف والكشف لجماليات ما تكتب أو تشيد من معماريات
البوح في التصوير والوصف وحتى السرد المشعرن .
بعد هذه المقدمة المختصرة أقدم هذه المبدعة الكبيرة من خلال هذه المقابلة التي سعيت لآن تكون من قلب تجربتها الحداثية وأطر خصوصيتها الكتابية بعيدا عن السرد الصحفي والمديح الاجتماعي والاسفاف اللغوي الانشائي . فلنكن مع الشاعرة فواغي القاسمي في بوحها الجديد ..
· من اين يمكن فتح مغاليق رحلتك مع الشعر وماعنوان شفرتها ؟
ثورة احتدام و اضطرام .. انعكاسات ضبابية الزمن و قسوته قدر أهل البيت عليهم الصلاة و السلام ، إرثا من الظلم بقي ممتدا منذ كربلاء و حتى آخر نسلهم ممن حمل طهر نطفتهم ، و شاء لنا الإله أن نكون من حملة هذه النطفة الطاهرة بقدرها و ما أراده الله بها و لها . و أصبحت معين نزف تتشكله المؤامرة والظلم أينما يممنا وجهننا، تماما كميراثنا بعضا مما أفاض الله به عليهم من نعمة البوح .
· ماهي اللغة التي نعنيها شعرا ، وبماذا يتخارج الشعراء على سطوتها وعبوديتها؟
الشعر متاهات من الغربة اللذيذة ، غيبة عنا وفينا ، فناء في غيابٍ متجلًّ في حضورٍ لشرود ، لغة تكتبنا بدبق أعسالها و نبيذ حروفها المعتقة ، سكرة لا نستفيق منها إلا بأقداحنا الفارغة إلا منا .. وحدنا فقط .. صورة منعكسة بشفافية الشعور و مشاعر المفردة العازفة على أوتار الجمال أيقونات تزين جيد القصيدة . اللغة الفضاء الحميم الذي يطلقنا على موائده العامرة بلذائذ الخيار والاختيار ، سفوح من الروابي المزهرة في لوحة اللون و العطر و الندى ، تشكيل شفيف من المشاعر الأنيقة برهافتها و قسوتها ، بخوفها و أمنها ، بعشقها و سخطها ، متناقضات شتى ، كباقة من الورود بألوانها و أشواكها ، و لا مجال لعبودية و سطوة تفرضها حين هي التي تتيح خيارات الجمال كلها لانتقاء ما نشتهيه .
· كيف يمكن تأشير مسافة الفراغ بين الشعر والنقد، في ضوء الخسرانات التي يمنى بها الشعراء؟
الشعور منحوتة هلامية الملامح ، إلى أن يعتمل فيها إزميل النحات فيبرز مكامن الجمال الماتعة تلك التي قد تغيب عن العامة فتلتقطها فراسة الخاصة ، كذلك هو النقد البناء الذي يرتكز على أساسيات الشفافية و الحيادية بعيدا عن مؤثرات العصر المادية التي أثرت سلبا في مصداقية الكثير مما يقرأ من نقد يتنافر وموضوعه و بقي في ظلال الحقيقة شعر و شعراء تلكأ الحظ في دروبهم و لم تصادفهم إشارات الدلالة و التعريف بقناديل تسقط الضوء على تلك المسالك الشاسعة برونقها و سموها و صدق نتاجها . فجوة تماهى الزمن في تعميقها لتسجل خسرانات متتالية لأصحاب المواهب الحقيقية و نجاحات لذوي الأقلام المدفوعة الثمن .. و لست هنا في حكم التعميم و إنما بخصائص الظاهرة ، التي قد تعلو أو تخفت متأثرة حيثا و حينا و كيفا .
· بتقديرك هل لازالت قصيدة النثر في خطى المغامرة ، أم انها امتلكت التسبيب في معاصرة المكوث ؟
في البدء ، للتعريف تحفظ من جانبي .. و كان لي من الأمل صهوة تمنيت أن يشاركنى بها أصحاب النقد صعودا في تخليص هذا الفن الشعري من غوغائية الحوار و تهافت الآراء و سوداوية النهايات المؤلمة . القصيدة العمودية أرث تاريخي لعصور متتالية وضعت لها أساسات العروض و القوافي و كل مخلص لها ستأخذه العزة بأن لا يقبل لها شريكا بتسميتها في حين لا ينكر شاعرية الفن الآخر ، فالتحول الزمني أخرج القصيدة العمودية من الإطار الخليلي التقليدي لأطر تلاقت معه كثيرا و افترقت قليلا و لكنها لم تخن تلك الأصول الثابتة ، فظهرت الموشحات الأندلسية و القدود الحلبية و قصيدة التفعيلة و غيرها من الأشكال التي تبنت لها معرفات خاصة بها و لم تقتحم بيت القصيدة التقليدي .. فلماذا لا يتفق النقاد على تسمية لهذا الفن الرائع من شعرية الأدب النثري بتسمية تليق بمضمونه و شكله لينتهي ذلك الخلاف العقيم الذي لم يؤدي حتى اليوم إلا لتفرعات كثيرة من الخلافات شغلت النقاد بما لا يفيد عن ما يفيد، ليسقى الأدب العربي كؤوسا مرة من الضياع و عدم تحديد الهوية .
· هل حققت ذاتك في مجاميعك الشعرية كيقين أم لازال هنالك شك في داخلك يبحث عن يقينك الغائب ؟
اليقين هو النهايات المحتومة مسبقا و رحلة البحث عنه مغامرة تستبيح القدرة و الرغبة و المتعة و لا يمكن الوصول إليها حتى لا تتوقف نواعير البحث الشقية عن دورانها المتلهف لاكتشاف ما خُفي و غاب ... و إن بانَ فلا بد من وجود ما لم يبنْ لملامسة ما كان و و البحث عن ما يكون وما سوف يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون.... دوامة من الأسئلة الحيرى تنتظر على مفترق الإجابة عن سبيل وصول ليبقى اليقين معلقا على قارعة الغياب.
· كيف تنظرين الى أزمة المصطلح النقدي وأين فاصلة العزل بين ذكورية الشعر وانوثته ؟
المضحك المبكي لدينا نحن الشرقيين أننا نصر على أنسنة كل شيء ، من الخالق حتى الجماد ..و تعريف جنسه ذكرا أم أنثى ، انعكاسا للعقدة الذكورية التي تعشعش في ذاكرة المفهوم الشرقي الصدأة . ثم يأتي دور المفاضلة المقيتة ليعلي من شأن أحدهم على الآخر ... حتى طال الأمر هبات الخالق فأنثت و ذكرت و جعل بين الإثنين سياج فصل و تمييز، و إن هو إلا وهم منعكس من مرآة شوهاء ضاعت فيها ملامح الحقيقة .
· هل اكل التنور السياسي في عالمنا العربي مدونات الكلمة، ومن سيقود في المرحلة المقبلة الثقافي أم السياسي؟.
يبقى الصولجان بيد الساسة طالما كانت الشعوب خرافا ضالة ، يسوقونها كيفما يشاءون... متكئين على يقين بأن العماء غلف أنسجة المحيط و الفضاء بسواتر من العتمة لا يخترقها النور ، فتبقى البصيرة معصوبة عن الإدراك .. و لكن حين تتمزق تلك الحجب الواهية لتنطلق النفوس في مدارات نورية العقل إشراقا و مشاهدة لترتقي سلالم الصعود في التكوين الأمثل لخلق الفكر العادل.... طبقات يقع بعضها فوق بعض حتى اكتمال الرؤية و نضج القرار .. و هذا العالم الافتراضي ، شرع بوابات ولوجه دونما حجّاب و حراس ليخلق موائد الحوار و الامتزاج لثقافات شتى تضيف ما سبق على ما يلي ، و تبني على ما تأتّى معارج الفكر و الثقافة لتصافح سماءا ثامنة قتستلم صولجان قيادتها لذاتها بقراراها لا بقرار راعي الخراف الضالة ....!
· لو اتيح لك اعادة رسم خارطة الشعر العربي ، ماهي الثوابت التي ترينها وماهي المتغيرات ؟
ليس الشعر وحده ما يحتاج لإعادة تنضيد و تنقيح ، بل الثقافة العربية بكامل شكلها بعد أن ارتُكبت بحقها مجازر أفقدتها وعيها و جعلتها تترنح في حالة من اللاوعي و أشركت معها أيدلوجية عبثت بها مفاهيم عقيمة توقف سيرها منذ أكثر من ألف أربعمائة عام فأصبحنا الآن ندور في عالم التيه بانتظار عصا سحرية تشق لنا لجج العبور إلى سهول الـ ما يجب أن يكون
· أقرأ في شعرك خوفا معنّفا يتجاوز حدود الشعر ، ما هو الشيء الذي يخيفك كمجهول في اللحظة الحرجة؟
لو علم و كان يقينا لأمناه ...و ثوينا على متكأ السلامة ، غير أن القدر كجراب الحاوي الذي يبرز حيله على سذاجة الكون ، فيخطط للتوثب و القلق مسارات حرجة و دروب شائكة .... ثم يطفئ أنواره في لعبة الحظ الجريئة ، يتراقص على عذابات تيهنا في صحراء ضاعت بوصلتها ..و تتداخلت جهاتها التسع و التسعون . تماما كما في مدائن الرعب حيث تبقى المفاجأة من سقوط خنجر أو شهابا من سماء غامضة ، أو صرخة تشق أفاق السمع من بين شعاب رواسي قاتمة ، أو موجة جارفة تسحق الأمل في لجج التعثر .. هكذا يبقى الغيب خاملا للحظة و نشطا في لحظات غير محسوبة ،، كل هذا التجارب القاسية أخذتني في دوامتها الحرون لتبقيني دائخة لا ألوي على صواب يقين .
· وقتما تعرفت عليك ، عرفت أنك نشأت في حامية شعرية قوامها الوالد الراحل رحمه الله ، وهناك الشاعرتان ميسون وهند وربما اخر .. أين تضعين تحربتك بين تجارب ذويك من الشعراء؟
لا أقيم نفسي و لا أقارنها بآخرين ، و أعترف كما دوما بأنني أهوى كتابة الشعر و المسرحية و أمارسها من باب الهواية التي لا تضعني ضمن تصنيف آخر سواها.
· لمن فضل الأبوة بين المسرح والشعر .. وفي أي اهتمام تتميزين .. هل كمسرحية شاعرة أم كشاعرة مسرحية ، أم ليس هناك حدود للشعر ؟
المسرحية هي عشقي الأول الذي أجدني من خلاله ، أما الشعر فإبنها البار الذي تحتضنه لغتها و أحداثها . و لا أحد سواي في العائلة يمارس هذا النوع من الكتابة حتى الآن ، أستطيع أن أقول بأنني أول من كتب المسرحية الشعرية في العائلة و ربما أبعد من ذلك ، و لا أزال وحيدة في المكان حتى يومنا هذا . أما مسألة المفاضلة و التفضيل فلا أجدني أنحاز لأحدهما على حساب الآخر ،و إنما لفضاءات الخيال مدارات رحبة ، تأخذني شعرا حينا و نثرا أحيانا ، و مسرحا في أحايين أخر . هكذا أغوص في رحلتي و أنا أحمل حقيبة سفري بين هذا و ذاك و حيثما طاب المقام لي ، وجدتُني أغرف من موائد متعته ما ينأى بي بعيدا في سماوات الشرود .
· على أي جنس كتابي تراهنين كثيمة للبقاء في ضوء صراع التكنولوجيا بين العلم والادب ؟
في عصر العولمة أصبحت التكنولوجيا غولا يلتهم ما عداه و سيدا يفرض شكليات الوجود و ما ينبغي أن يكون أو ما يجب أن يتوارى خلف أحجبة التجاهل المتعمد ظلما .. ساعدها في غيها المجنون وسائل إعلام روجت لفن على حساب آخر ، فتفيأت الرواية عرش الأدب حين تمنطقت بهواجس السينما و التلفاز فاقتحمت عقول البشر و عقر ديارهم.. فارضة هيمنتها بعد أن أخضعت لمبضع الجراح الذي حولها إلى سيناريو يتسلل إلى ألباب و أفئدة البشرية . هكذا يتفرد العلم بسلطويتة الظالمة مسخرا الأدب لمزاجاته ، متخيرا بين صنوفه ما يوافق حاجته و يشبع رغبته المادية ، و قد جنى بهذا على صنوف كان لها أن تضيء أقمارها كسوق عكاظ.