(11)
أحمقَ من هَبَنـّقه ،
روي أن هبنقة ضلّ بعيره يوما ،
فأخذ ينادي :" من وجد بعيري فهو له " ،
فقيل له: " فلمَ تنشده؟"
قال : " فأين حلاوة الوجدان ؟!"
و غراب بن دأية ، وجه الشيطان ، إمّعة ٌ هُيّجَ على غيٍّ فطغى ..
يهب مع كل ريح ٍ ، و يسعى مع كل قوم ٍ ، و يدرج في كل وكر ٍ
كالكَمْأةِ لا أصلٌ ثَابِت ولا فرعٌ نابِت
يطلي وجهه القبيح بمساحيق التغريب و يتسربل بأسمالهم
علها تسقط عليه شيئا من الوجاهة كما يخيل إليه
و إنه " لأخيل من مُذالة "
فهو لا يعرف ، و لا يعرف أنه لا يعرف .. فذاك شر الناس!
ما حز قلبه إثم و لا نقيصة ،
تفرد بالباطل و أوكل للغربان كهوف الضلال
أبرم على نفسه صكوك المهانة بعد أن أبرم معهم صكوك الخيانة ..
مغلول بشعث نعل ٍ مهترئ ٍ ، وما كان يوما أكبر منه !
بل أذل لأقدام الرجال من النعل
ماض ٍ في تواطئه مع الوهم ووعود الخفافيش
و جولات الآفكين في مزايدات التهافت الآثم
يحرّق أصابع الربيع ، لتسكن البيد الجنادب و الأوابد ...
أبغض عند القوم من ناقة ٍ جرباء
فتبا ً لمأفون ساق ويله !
(12)
استراحة لا بد منها ...
أهرب من العروض و الأوزان
هرب المحب من حبيبه
ليعود ملهوفا إليه ،
عناق الشوق من الروح للقافية ..
به أغلق المصراع حتى حين !
**
أتعرفون من يكون سادتي هـبَـنـّقـَه ْ؟
من تضرب الأمثال في غبائه
ما أحمقه ْ
ذاك الذي أخباره طرائفا ً ملفقه ْ...
لا يملك التمييز في نظرته و التفـرقه ْ...
ما بين حبل ٍ للتأرجح ِ
أو حبال ِ المشنقه ْ...!
واليوم يأتي آخرٌ أحمقَ من هبـَنـّقـَه ْ
عُفلوقُ صدّق أنه ذو مقدرات ٍ خارقهْ
إمـّعـة ٌ و أخـرقٌ
متصفٌ بالزندقه.
يغفلق الكلام لا يفقه شيئا ينطقه ْ..
فمن تجارة ِ البـِغاء ِ و الخمور و الحمير ِ الناهقه ْ
لحلمِه ارتقاءَ رَيـْد ٍ شامخات ٍ شاهقه ْ ...
فالحكم في اعتقاده مغامرات شيقه ْ...
يظنه تجارة ً ممنوعة
أو قصة ً منمقةْ ..
ويل له من أبله ٍ إمعة ٍ غباؤه قد أحرقه
فهل عرفتم ذلك الصعلوك
ابن الجُـنـْبُـقـه ْ
(13)
سأدع النهايات في عتمتها الكئيبة لوعد النواقيس
و أغرف قليلا من ينبوع ذكريات الشجون
ففي كلالة الوقت ,
تنجبنا مزن الأحلام من أرحام الذكرى
موقدة شمعدانات الولوج في مجرات الدوران
حول عناقيد الخيال المترع بمفارقات الواقع
و سنابل الشوق و طيوف الهائمين في فراديس الفرحة
استدراك الأمل في استرجاع البهجة
و همسات الحي الساهرة على شرفات الحنين
في انتظار انبلاج فجر التحقق الـ يمزق أستار التغريب و التغييب
(14)
" صباح القهوة السمراء ِ ، فوع الهيل و العنبر
صباح من عبيق الورد ِ والريحان و الأذفر "
هكذا ألقى عليها تحية الإصباح
عهده بها شاعرة تشرأب حميتها للغتها المقدسة
فيستفز قريحتها لتصلح له اعوجاج الأوزان
و تجبّرُ كسور البيان التي كثيرا ما تحفل بها تلقائيته
تحتضن يده الفنجان حين دخان القهوة يتصاعد
لتترنح أجواء الشرفة بالرائحة الشرقية العبقة ...
يرتشف قهوته بتأد ٍ شديد
شرود في كؤوس اللذة المترعة بالخيال المشع
(15)
عيناه ترمقانها وهي تطل على شاطئ الخليج العربي الساحر ..
تأخذها الزرقة بعيدا تردد أغنية لفيروز ،
ذلك الصوت الذي اعتادا سماعه عند بزوغ كل فجر
" شايفة البحر شو كبير... كبر البحر بحبك "
ينعجن ذلك الصداح الشجي بنور الإله المتشقق من عتمة الليل
فيرسم لوحة من خيال الفراديس
و ألحانا سومرية تتغزل بإنانا آلهة الحب
لا يخترقها سوى زقزقة العصافير
التي تتجمع على شجرة " اللوز" المعمرة
وارفة الظلال ، شديدة الاخضرار ..ما يجعلها موحية بلذة الحياة
ناطقة بتياشير المستقبل و ترانيم التفاؤل
ينضح الفجر أضواءه الحالمة على صفحة الخليج
فيلبسها حلة لؤلؤية رقراقة تخرجهم من أبجدية الليل
الذي يرمي معطفه على قارعة الفجر
ليتوضأ بأنواره ِ الفاتحة ..
و يستسقى غوادق النضوج الكائلة من ضيائه.
(16)
يغتسل الشاطئ كل صباح بتلك الموجات الدافئة الحنونة
فترسل لها ابتسامتها على معارج الشجون
و تلوح لها بقبلات الندى المتقطر من أهداب الصباح
تلتفت إليه بابتسامة فيراها كملاك من حلم أزلي ،
كثيرا ما همس لروحها بصبابات العشق
وبأنها أطيب من الماء على الظمأ
تتخطفه توهجات الحب الذي يوحِّدُ فيهما الأنا ، فتباغته النشوة
تلتف يداه حولها فيضمها إلى صدره و كأن التحام جسديهما
يشعره بحرارة ذلك العشق ليطوف متعبدا في حناياه
(17)
تدلف في قلبه نسمات عبيرها وديعة رائقة
يمحو من ذاكرته ماض ٍ قلق تدحرجَ في تعاريج الدروب الآفلة
ومسافات الشوك الحادة و اعوجاجات المنطق و تعب المسير
و ينتشيه حاضرناضر فيغتسل بانهمارات شهده و أقحوان ثوانيه
تتلون مقلتاه بوميض البهجة تنسكب من بدائع الجنة
لايمت شعوره للأرض بصلة القاطنين الراحلين العابثين
بل يسمق لصلاة العاشقين... لتمتماتهم الدائخة في أثير الأساطير
و أسراب أحلامهم المحلقة على حلقات الوجد
و قصائدهم الثملة بنبيذ الكلمات .
(18)
من أوكل للهدهد مباغتات البهجة
و رسائل الغمران و تراتيل الحقول
من أوعز للريح النَؤوج شريعة الترحال و توحيد النثار
و أسكب في حقائبها وهج الأسفار و محابر الأقدار
من أبلغ النوارس بسر البياض و نزهة الشواطئ
من أمكن السهام من القلوب الوديعة لتسقطها صريعة
من ألهم النساج تقاسيم القصائد و نشيج الحرير
و شغب الخيوط و لوعة الأنامل !
من علم الدوح تعاويذ الحدائق .. و أرشد الربيع لشهوة الزنابق
و أشهد الخريف حقيقة العراء في حلة الألوان
من صادق المواسم وقاسمها بذخ الاحتفالات
و ألبسها مواعيد الفرح وقلائد الأشواق
من علق الأوهام على أفاريز الغيوب
و شيد اليقين على تخوم السحاب فاستنزل الهيام
من فعل كل هذا .. من !
(19)
" فارحم القلب الذي يصبو إليك
فغدا تملكه بين يديك ...
وغدا تأتلف الجنة أنهارا وظلا ّ
و غدا ننسى فلا نأسى على ماض ٍ تولى
وغدا نسهو فلا نعرف للغيب محلا
و غدا للحاضر الساهر نحيا ليس إلا..
قد يكون الغيب حلوا إنما الحاضر أحلى"
انسياب صوت " أم كلثوم" في المساء ، كالتدثر بالسحاب
أو ارتشاف قطرات الياسمين من أباريق التيه
تتصاعد نبضات قلبيهما على وقع كلماتها العتيقة الباذخة
تداعب مشاعرهما التي تتفجر كزنابق برية متمردة
تخرجهم من شغب الكلام
و تغرقهم في لجج الآه المشتعلة في لواعج الصوت الرخيم
اعتادا على هفهفة شدوها تسكرهم بلذائذ الشرود
يتسلل في عتمة الليل على ضوء شحيح ترسله شمعة معطرة
يحرث في قلبيهما لواعج الذكرى و أثير اللطائف
توأمة بأجمل مساحات البهاء التى جمعت نثار روحيهما ...
" أغدا ألقاك " , " الحب كله " , " أنت عمري " , " بعيد عنك "
ذكريات و تداعيات ليلكية الهوى و الشجون
عابقة كزهور الحناء حين يخلع الندى رونقه على ردائها الأبيض
لتغدو كزورق يتهادى على غمر ٍ من نسائم العبير
و لكلٍّ تهمة الذوبان في ليالي العصف الصاخبة
و ارتباكات الولوج في رياض الممكنات و ريود المستحيلات
تشعل قلبيهما بحب لم تطفأه مكائد الغيرة
و لا زفير الوشايات أو شراك المعذبين بمركبات النقصان
فكأنما خلقا مسيران بهذا التوحد
محروسان بلطائف القدرة .. و نواميس اليقين الحافظ
(20)
لمن وسائد النسيم المزركشة تزرعها ؟!
ترويها من غدق المزن الحائرة في رهج السماوات
تنشدها أغنيات عشتار وتعزف على ناي ديموزي
تميد بدلالها الغريق في لجج الوجد
و يحلق بك الحلم خارج المدارك المألوفة
متشربة أوصالك بخدر العقيق و تمتمات المرمر
و لغة القصب في حقول الاشتهاء
ونزوان الظباء الشوارد ...
منسدل ذلك المسك الغيهباني على صباحات الجوري
وبريق اشتعال اللواحظ حين اختراق أثير النظرات
في خفوت قدرة الحراك ، و توهج النشوة
يسلبها احتمالات الخجل الشائكة بشقائق الرغبة
لتتهاوى دَرْجُ يديك ... !