(21)
لنيسان في ذاكريتهما خوابي الطيوب
و اشتعالات الرند المختزل في خوافق الشوق
الممتزج بلهفة التحقق
ما يسرح بهما بعيدا في رباب البخور المتصاعد من مباخر البهجة ,
و تنهدات الربيع الفائحة بعبير الرياحين و الحَبَق
بديئة الإنغماس في منازل الجنان
و رحائب التخوم المترفة بقشيب الحظوظ الضاحكة
تسح سحائب الهيام خمرة الذوب في ارتعاشة قلبيهما
تغرقهما نشوة الانصهار بعيدا عن نواميس الزمان و المكان .
خدر الغيبوبة في توحد الذات بالذات
ارتقاء مدارات العشق المتدفق كنعيم الأزل
و لذة الوصل بعد المكوث على أفاريز الانتظار
و الطواف حول حلم أزهر في مقلتي الوجد
بمعبد زاهد غاب عنه الوجود إلا هي ،
منعكس حضورها في مرايا المهج الهائمة
(22)
بعيدا نأيا عن مباغتات الفضول
و شعائر التنسيق و رتابة الاستعارات البهيتة
يحزمان ريعان عشقهما المتربع على عرش الغرام
يزرعان الليل الحميم على شميم الوهج المتصاعد من نبضيهما
تتمادى اللواعج في غمران الجمع المقدس
تغتسل من علائق ليالي الآثام الباردة
خالقة ِ آلام التسهيد و صيْهَبِ الآهات
يمرع الوصل في غيبوبة ذوبان الناسوت بمباركة اللاهوت
لا شيء ينجب الفرحة لهما أكثر من هذا الوقت
الـ يتقطر شهدا تستجمعه الأرواح الهائمة في أثير المشاعر
و تنهدات الشوق الرافض للخفوت
(23)
قالت : سراعا تمر لحظات العمرالجميلة ، لكم أخشى النهايات !
أكاد أتلمس عثرات الدروب المبيتة في ظلمات الأقبية
تتصاعد منها روائح الغيرة العفنة تختلط برطوبة النقصان
منذ الوهلة الأولى أخترقتني تلك النظرات الغادرة
إنذار بالوكيت في قادم الأيام / هل للضرير بصيرة يا ترى!
أم استحكمت فيه العلة المغروسة بأنياب الأفعى
فانغلق اللب على القلب على البصيرة
و ختم الشمع الأسود على منافذ التمييز،
في غياب حرارة المشاعر التي قد تذيبه ؟
أما زال في اليقظة شيء من الأمل يراود ضميره
يستدرج به ذكريات التتويج حين تأتـَّى له الصعود
فيستيقظ اليقين المتدثر بأسمال الغيبة و التدليس !
و يفند الأضاليل المغرضة التي تتسلق مدارج التشويه
ترسم احتمالات العراء الشائكة النذر .
(24)
تقتلع تلك الهواجس الشاحبة منمنمات السكون
تسقطها على خليع القلب ليتفجر بركان النبض
فترتج ثوابت الهدوء و أنَسَة الاتكاء على واقع الأمان
فيباغته دوار المفاجأه ...
تنسحب ذيول الذكرى تلملم أردية الهجيع الأول
المكتنزة في غرابيل الوقت المتهافت على مصاطب الاحتضار المأزومة
ووعثاء الرحيل في سراديب البَجَاري المعتمة
تنطفئ قناديل شروده وتتمحور الظلال حول نقطة سوداء
يتراءى له الموعوث من ثقوبها...
والـختيتة تحيط جراب الحاوي ،
تملأه بصديد حيلها المحمومة المشئومة..
تلبس الضرير قلائد التضليل
ليرى ذلك الموعوث كهرمانا
و ذاك منه أبعد من منال الثريا ...
(25)
يطفأ أعقاب ذكرياته الحزينة في منفضة الأيام الصدأة
ثم يمج دخان الرؤى
ذاك الذي يفوح كعبق بخور شرقي خليجي
رؤية إثر رؤية إثر رؤية
ثم ينفثها سحبا هطولة ترتق فتوق الزمن البليد المتآكل
يتمدد تحت ظلالها
منتعشا بذلك الرذاذ الأنيس
الذي يسقط عنه غبار الألم
وحشود من الآمال تتجمهر حوله و داخله
تفجر شرانق الفجر المخبوء في أردية الغيب
كرسالة تحملها رياح البشرى
و عناقيد الحلم المتدلية من فضاء لم يخلق بعد
تلامس جوارحه المسكونة بجروح الأيام
فتشرأب ذاته تنشب ضوءها بسماء ثامنة
و جوقة الفرح تعزف أعذب تراتيلها ..
ينزلق الزمن بين أنامل أفكاره
كرمال الصحراء الناعمة التي يألفها
فيفاجأ بكف التخيل قاحلا بعد انسياب بقية حبات الرمال
لحظة من جنون في انتظار أول برق عابر في فضاء موتور
ليشعل النجوم الواعدة.
(26)
" أن الهوى عصف الرياح
تكسرت
منها صواري الأشرعهْ
كم مزقت ساحات نبض
غرامنا
تذري النثار
على الجهات الأربعهْ
،
جورا يزلزلنا الهوى
في حكمه
ونظل نهمس ، رغم قسوته بنا ،
ما أروعهْ ! "
،
تهادى إلى مسامعه ذلك الصوت الحالم
لينتشله من طواحين ذكرياته الموجعة
وتتدحرج بقاياها المسمومة....
همس يلبس الوقت جماله
و يسرح العينين على لواعج القلوب
التفت إليها تسوقه نبضات ولهه
وتتساقط الكلمات المدبقة بشهد الأماني لتمحو قتام ذكرياته.
(27)
تنتصب قامة ألمه عارية من مكائدهم الخاثرة ،
فيزرع الحرائق على قبور معابرهم المغبرة ،
و دفائن الزيف العفنة...
يمتد أجيجها إلى بواطن التأليف،
و نقيق الرغائب السقيمة..
وصدى يردد :
( كالنار تأكل بعضها ، إن لم تجد ما تأكله)
لترتد حيث الترهات و نقيع أقاويل الحنظل..
تسوق سربا من صواعق التمني،
مهيأة للانقضاض على سواتر الاختباء المقيت...
حيث الدائرة تلتف حول دائرة،
و الفكرة السوداء تلتهم اللالونيّة،
و حمى الرذيلة تفتك بمفاصل الفضيلة ،
وهندسة الجشع ترسم أضلع عمارة الرماد..
و النبتة الشيطانية المأهولة بالنقائص ،
متهيأة للانقضاض على الوليمة .
يُنظِمون غيّهم و بغيهم قلائدا ً لإبليس،
و يذبحون (السّمْرَ و الغافَ) بمعاول شراهتهم.
حين مخازن الشرور مشرعة لاحتضانهم ، هم جرذان الكيد الأسود .
وزبانية الجريمة ، يحرسون سراديبها المكتظة بالعفن ..
يسجلون كتاب خطاياهم بمداد الحقد .
(28)
يعود الثلاثون من نوفمبر بذكريات حمراء سوداء،
أيها الخليج العربي
نثيث عينيك يعلو فوق أجاجك ،
جبال من أسى ً و شوق و لهفة انتظار ,
لعودة مرتجاة ..
و سفن الآمال الـ تمخر عبابك باحثة عن مرسى صدق ٍ ،
تتكسر صواريها المتعثرة بالحقيقة .
جبال من جليد الخيانات تعلو في قاعك ،
و القوم يَحْطِبون أمانيك ..يشعلون بها حريقك..
وحدك و محبيك فقط ، من يصطلي بلهيبها .
و هاهم في نشيج حزنهم ،
يقرعون طبول الألم الثائر في أجزائهم ،
المنفصل بهم عن سفينة السكون ..
،
حشود من لواعج الحنين ،
تكتظ بها ردهات الوطن المأسور بحبك أيتها الجمان
و عويلك ينغرس كحراب قاتلة،
في غور الشعور المنعجن بدموع الفراق ،
تتفرع منها ألف قبيلة من الحزن .
وسماواتك مزروعة بمقل ٍ حمراء ,
ترعد بضجيج سنابك العزة
(29)
قالت :
يا لإخطبوط المؤامرة الخبيثة !
كم هي مريرة تلك الأزمنة ،
استشرس فيها الذئب بالقطعان ،
حين انسلخت من ريعانها ، عنفوانها ، ليوثيتها .
حين كسرت مصباح الضوء و أغلقت المشكاة .
حين بللها مطر السوء فتقيحت ندوبها...
زاولت عن يقين الشمس ذات اليمين و ذات الشمال،
و الكلب قائم بالوصيد يقلبها على أشواك رغائبه ..
وهي سادرة في حضيض احتضارها
لا يوقظها منه حتى و لا بوق اسرافيل ..!
سنجمع الليلة رياحيننا المتيبسة على أسوار الوصية ..
نرويها من نمير الغمران المقدسة ،
يتغلل في جذورها الداغلة في عمق الحقيقة .
،
تلتفت لصوت قادم من بين أجاج الموج
بياض يسمق في كون ذاكرتها ،
تلتمع فيه بروق التاريخ :
( اشتقتك أيتها الأسيرة
أنينك وعويلك نواعير ألم تحرث هدأة رمسي ،
كيف يرسمونك أيقونة ذكرى ويكتفون ..!
كيف تخبو جراحك في سراديب النسيان ،
و تتراقص الأحلام في وسائدهم الوثيرة .!)
يسقط صوته في عباب قلبها كهدير الموج الصاخب
(30)
تحملها الريح الدَّروج إلى كارثة الخطب ،
وحشرجة دماء الشهداء..
و يصخبها أزيز جوارحها المأزومة بترهلات الوقت ،
و عدم مصداقية الموقف ...
تلتفت ،
وعاصفة سهوج تشدها إلى غور سحيق القرار .
تصرخ للطـّيف و ذراعيها تحاولان احتضانه..
(شيخنا أيها الوقور)
قالتها بلهفة مرتعشة ،
( أي ريح ساقت خطاك هنا !
وأي أقدار أتتنا بك في هذا الزمن الحزون؟!)
( جئت أبحث عنها بين قوافل النسيان..)
قالها ، و توارى في الغيوم الكئيبة التي تحيطهما.
خاطبته :
جارنا أيها الشيخ المهيب ، خلع رداء الحمل ..
تأبّدَ كهُوَ ، خلف قناعه ،
و تهاوت المآود على هاماتنا تباعا...
و نقيع الطـُّهر روى الأرض الطهور.
و القوم يا شيخنا سادرون!
في لهوهم سادرون ..!
يأتمرون و ينفضون غبار مقاعدهم ورماد سجائرهم
و ينفضّون ...
كأن شيئا لم يكن و لن يكون !
يشجبون ..يستنكرون ..
يكتبون .. ويعلنون ..
ثم ماذا يفعلون ..؟
يتناسون أو قل ينسون..
هم كما دوما ،
في لهوهم سادرون ..!