شكرا انا بانتظار الجواب المسهب
احترامي ومودتي ومحبتي
يوسف الشرقاوي
الزمن أرجوحة تهبنا لحظات المتعة أحيانا و العذاب أحايينا أخر .. و بينهما تتهادى نبضاتنا بين السكينة و الرفض ، الفرحة و الحزن ، الأمل و الألم.. وتبقى القصيدة ولادة رعشة مقدسة انفصلت فيها المادة عن الروح .. لحظة من بروق خاطفة تسقط أنوارها كبقعة ضوء من حروف و مشاعر لتكتبنا في لحظة غياب الوعي و تجلي الحقيقة .
هذه الشاعرية المستحضرة في النص الشعري المنسكبة من أباريق التيه على معارج الحروف و أفاريز النبض هي مشاهد منعكسة من قطاف الفصول المصلوبة على مفترقات الرحيل ، ذاك الممتد بنا منذ الأزل و لم يزل، صور بيضاء و سوداء ، و ألوان مرسومة بريشة فنان معصوب العينين .. شرع للضوء ريشته فامتزجت ألوان اللوحة ، مبدعة فضاءات ترسم فينا الكلمة و ترتلها على أوتار الشرود ..
تحترق الوهلة الأولى فيتصاعد لهيب قوامها في متاهات التشكيل ، تستدرج الشجن من بوتقة اختزاله لتغرقه في رماد التكوين الأول ، وتغيب لحظة الوعي المدرك في سبات الغيب المبهم الصادح بترانيم الانعتاق من لابد و ما يجب وما لا يكون أويكون ، شاردة في ملكوت الدهشة الخالقة و الرغائب المخزونة ....
و في روابي الكلمة تستبيح الذات مواردها المتألقة و الألقة بعيدا عن الانتقاء الساذج و استجابة لنداء الصوت الصارخ ببرية الدواخل ، ذاك المتجرد من التنسيق و الأدلجة و الفرض .. تحليق على ضباب الغربة وانزواء في صومعة التراتيل المعتقة منذ زمن غائب في الحقيقة و حاضر في الشعور ..
موازين الصوت الناحب والغاضب و المتألم و الشاكي .. المعجون بلواعج الغروب و تمتمات الفجر و هواجس الماء و خديعة الطين ، المقتسم مداه بين صهيل الريح و صهوة النهار و حميمية الليل تلك التي تخلقني في كل لحظة كمأدبة من مشاعر متراكمة و صور مضطربة و قناديل متكسر ضوءها على تعاشيب المهج .. يندلق مداد القلب على صفحات التعبير البيضاء فترتسم اللذة الوردية على مدارج التأويل ...
و للحزن في قوافي المقام صواعق التخليد في طرائق التجديد ، و غربة الشعور في رحلة العبور .. مساحات الألم اللذيذ و المفارقات الماتعة..حزمة من حشود الكلمة المكتظة في انعاكاسات صورها على مرآة الزمن الآبق... وينطلق ذاك المتكور حول مدفأة اليقين متمردا من أعباء اتصاله إلى بهاء انفلاته كمتسابق مع الايائل الشاردة في مروج المتعة..
هذا الحزن الحميم الـ يتقاسم مع الليل مواويله و يتوسد نجومه ، يرتحل خارج مدارات الواقع معلقا على مشجب الإهمال كل احتمالات النهاية وأشواك البداية و السرد و التشبيه ، ولي معه ذكريات و شجن ونواقيس تطرقني بلحظاتها المريرة و تغرقني في أعسال انبلاج الضوء السحري من عتمات الألم.. لتعتصرني لحظات الانبثاق الوجداني و يسلبني الشرود هدأة الاحتمال ، فتضج برأسي ألف طاحونة نائحة تشق أخاديدها الوعرة في جدران ذاتي ، فأحفها على جوانب النجوى و أنا أتخذ زاوية مورقة بقناديل العزلة .. فيتكثف هطول القصيدة ..
و كما للحزن مساحته الودودة كذلك للحنين مرابع الألفة و حقول الزنابق .. منغرس تحت خبائها أقانيم هوى و لوعة و لقيا و اغتراب .. مهاميز تحرث جمر الذكرى كسائس النار ، فيتمادى اللهيب الصانع نوافذ التيه قاذفا حمم الوجد المنعجن بلواعج النشيج . و تتجسد ألوان اللوحة من جديد في إطار من همسات حنونة لقصيدة معذبة ..
وتتسع صور المعاناة كثيرا ...تحطم مداميك الأنا ، منفتحة على الكل ... ترى من احتضارات الوطن و انهيارات قيمه مخالب ناهشة في صفاء السكينة ...و مزق من عروبة مهدرة بأضاليل عمياء فتنز الجراح ألما زاعقا يمزقني إلى أشلاء متهالكة... و خيوط من نيازك الاغتراب تعلقني على سماوات الفقد ، و صرخات السخط فاستجمعني ببوارق الأمل .. لتنهمر القصيدة الساخطة الغاضبة ، و تنغرس في عيون الوطن المكلوم .
تلك العذابات المشحونة بانصهارات الشعور تعزف في داخلي ترانيمها المنغمة على أوتار اللحن و المعني فينساب خريرها على وقع القوافي المتراقصة من شدة المتناقضات ...
و أجدني مرتحلة في مرافيء غربتي تظلني سماء مكفهرة و تعصف بي رياح الوجد أحيانا و الحزن أحيانا أخرى ، فارتوي من نمير هذا و من كوثر ذاك ، فتتدفق غمران التشكيل في صور القصيدة .
فواغي القاسمي