إشارات عن تصوف الروح و عولمتها
نشرت هذه الدراسة في كل من : الزمان / الحقائق / ألف ياء / الركن الأخضر / أبولوو صوت العروبة و غيرها
الشاعرة الإماراتية فواغي بنت صقر القاسمي (( إشارات عن تصوف الروح وعولمتها ))*
نعيم عبد مهلهل
شاعر و ناقد عراقي
((ومن يؤمن بالله حقا يرى هذا النور المتدفق عبر الغيوم فيتلمس طريق الوصول إليه..... هذه الحالة الإيمانية الصادقة , تجعله متمسكا دائما بصدق الحقيقة و عين الحق ..... وتجعل الأمل منبثقا بتدفق الإيمان في شرايين اليقين الروحي .... ليدرك أن رسالة الوجود والبعث أمانة بكل معاني مفرداتها ... و أن الحفاظ عليها هو في حقيقته حفاظ على عهود الإله .... هكذا تتواصل دروب السماء بطرقات الأرض و تعاريجها الوعرة, فتشرق أنوار القدرة الإلهية في صميم النفس البشرية و تكون رادعا عن الخطيئة و ملهمة للإيمان و الفضيلة..... ويصبح الحب معنى شاملا , تتآلف جوانبه في وحدة كلية متكاملة من المقام الأعلى إلى المقام الأسفل.... تواصلٌ متكاملٌ ينطلق من بوابة السماء مرورا بمقام الروح و القلب و النفس ليتصل بالأرض التي منها خلقنا و إليها نعود ))
الشاعرة فواغي القاسمي في مقدمة نص ( حجر الحقيقة ومحجر اليقين )
موقع أدبيات / 4 يناير 2006
ليس هناك تعريفا واضحا لمعنى هاجس، بقدر ما يعرف عنه إنه إحساس بتنويعاتٍ عدة، والشعر كخلق هو من بعض صناعة الهاجس ، أي انه يأتي من لحظة حسية ويتكون بشكل ما ، مرتبط بحجم وتأثير وتجربة وموهبة صاحب هذا الحس ، وهي موهبة تخضع لمقاييس وتدرجات تبعا لقوة النص وتأثيره والمشع من روحه على السامع والقارئ .
تولد القصيدة بقدر الهاجس ، ويلد الهاجس من قدر مجهول وفي النهاية نحصل على شكل من مشاعر مدونة هي نتاج ما تشعر به ذواتنا ونحن نسعى لاكتشاف ما نعتقده شيئا من غيب مسكون فينا ، لهذا كان أول الشعر هو بدء لولادة المخيلة العظيمة ولحظة اختراع الحرف ولوح الطين سعى الإنسان الأول ليعبر عن غبطة مشاعره بشيء من هلوسة الكتابة التي لم يعرف سرها ،سوى دافعها المجهول فكانت القصيدة الأولى ، ويقال إن لحظة ولادة تلك الهلوسة كانت ثمة امرأة تبتسم بدلال أمام هذا الشاعر الذي هو الآن في حكم تقديرنا ابدي وأزلي وربما هو واحد من الرسل الذين تلقفوا دمعة ادم ع لينشروها كما أجنحة الحمائم على الحواضر كلها .
هذا البدء مشى بإقدام الضوء مع مشي الأمم والحضارات منذ بيت الكهوف الحجرية وحتى ناطحات منهاتن وكان للشعر أن يكون ذاكرة كل هذا المشي وسيبقى لأنه في التعبير الجمعي للوجود الكوني يعتبر الهاجس الحقيقي الذي يعبر عن أمل وطموح الإنسان في وحدة الأكف والدمعة مع الأبدي الذي فوقنا وذلك يرتبط ذهنا وهاجسا مع كل المشفرات النبوية التي قادها آدم ونوح وإبراهيم ويسوع ومحمد وكل رسل وقديسي الكلمة وكان بين هذه الرؤى الشجاعة تكمن روح الشعر وهيبته لتصير قاموسا يفسر عبارة الحب والحلم بين ألسنة الأنبياء وكتبهم حتى أريد لهذا الهاجس أن يدخل في تشكيك مصدر وقدسية هذه الكتب لكنه كان ينائ عن تلك المشاحنات ليجئ إلى أبده الحقيقي روح الشاعر البسيط وخيمته وكأسه وفتوته وطموحه ليبقى مصدر بهجته لحبيبته أو لقبيلته أو لامته .
كتب الشعر الرجال . وكتبته النساء . وفي الحالتين كان الشعر هو تعبير عن ذلك الأزل البعيد بكل هواجسه أو مشاعره سواء كان عند الذكر أو الأنثى.
وأنثى الشعر لهذه القراءة شاعرة تستحق بفتنة الكلام التي لديها إن يضع احدنا أصابع ريشتها ليرسم مدارات هذا الهاجس ويفسر للأخر مشاعر بشتى اشتغالاتها وهي حتما تلتقي في النهاية مع قدرية ذلك البدء الحروفي وتنتهي بعولمة من التصوف والحب والأمومة الغارقة في ابتهاج كبير من الجمل والكلمات .
فواغي القاسمي . تكتب الشعر منذ سنين طوال ، وتمارس فيه قدر من الكشف لما يمتلكها ، وهي تحاول عبر تراث ثري من هذا الحس السحري أن تصنع لوجودها عالما يميزها بالصوت وبالكلمة وبالرؤية لما يحدث ، و هي مجايلة جيدة لوقيعة عالم تنظر إليه بعين ثالثة هي ( عين الشعر ) .
تلك العين التي تطل على نافذة المشهد العربي بتراث ليس كثير ولكنه كبير بقيمته ، ففيه من الشاعرية والإبداع والهم الأخلاقي والوطني والإنساني الكثير لأنه عالم يتسع لكثر من غاية ، عالم فيه فيض يتسع لأناشيد الولادة والخليج والأمومة والتعبد بصور تتعد غاياتها فتحس وأنت تقرا كامل تراث هذه الشاعرة انك أمام حماس قلب يأتي الشعر إليه ولا يذهب هو إلى الشعر .
قادتني عدة محاورات سريعة مع القاسمي إلى فهم طبيعة الطقس الكتابي لهذه الشاعرة المثابرة وهي تؤكد في طرحها لمفهوميه الشعر إنها تشتغل على ذائقة الحس القادمة من بعيد ، الحس المتوارث من دهشة الإلهة واختيارها لألم تسكن فيه روح الجملة ذات البريق ، لهذا تراها تعود في أكثر من نص إلى أصول ما تعتقده انه المكان الذي أتت منه ، بابل وسومر وبقاع أشور وكل أتربة عجائب الدنيا السبع لكن دهشتها تظل في أكثر من نص معلقة بروح عشتار وكأنها تربطها بوعي الفهم لهذا التغيير الهائل الذي يلف حياتنا .
ففي نصها ((عشتار في حبي و في غضبي..!)) والمنشور في ابسو / مجلة الثقافة الحرة في 21 ماي 2006 . نقرا سيلا من كشوفات هذه العولمة التي ترتدي أنوثتها بشيء من محاولة تفسير الحدث الكوني بحسية الشعر ، لتضع عشتار ، تلك الإلهة الحكيمة والمتمردة والتي تربط الجمال والخديعة بخيط واحد تجعلها نمطا لشكل معاصرة نعيشها وهي تناجي من تريد وتحب لتذكره بأن هذا الرمز رغم تداخل الرؤى فيها والقدريات والقراءات الميثولوجية المتعددة إلا انه يبقى خيط ضوء الإلهة التي يوصل القلوب إلى القلوب ليستقر هذا العالم عند لحظة الحب بعيدا عن الحروب والمجاعات والاحتلالات :
((لن ينطفئ لهبٌ
تأجج من
أخاديد الظنون ِ
من المجونِ ِ
أوَ ما فهمتَ
بأن عشقيَ
ليس يشبهه
سكوني
عشتار .. في حبي
و في غضبي
وفي كل
جنوني ))
هنا نرى الشاعرة فواغي القاسمي تبرر انفتاح القلب لديها إلى من تعتقده حبيبا ومخلصا ، والحبيب هو الرمز للوطن والزوج والمخلص الكوني لمعاناة مايحمله الضغط الخارجي على أرواح الشعراء المرهفة ، لهذا فان لجوء فواغي إلى عشتار هو لجوء مبرر مستخدمة قناع الإلهة لتكوين فكرة عليها أن تصل إلى أخر نقاط الكون هو أن الشجن الروحي للأخر لن يتم دون أن يكون هناك سلام وحب يعم العالم :
((ورياح عاصفتي
التي سكنتْ
سراديبَ
سنيني
ستمزق الآلام
و الأحزان
عن روض ِ
الشرايين ِ
ليمور زهر الياسمين
على روابي بهجتي
و ضفاف كوني ..!))
هذا المور الذي يلف زهر الياسمين هو في الحقيقة جزء من هم كونية الشعر لدى امرأة تريد أن تصل بطموحها إلى حقيقة أن أصابع عشتار يمكنها بلمسة السحر والشعر أن تغير العالم عبر قلب الرجل الأمل ( الرجل المخلص ) الموجود في تراث وأدبيات كل الشعوب والأمم .
((أنا لم أكن يوما
بعمقِ مشاعري
تلك التي أذكتْ حنيني رغم ارتحالي في الهوى
أنّا يكون
يكونُ كوني
فلقد عزفتَ على المشاعر
يا صديق الوجدِ
ألحان الأنين ِ)
يتكون العالم الشعري لفواغي بنت صقر القاسمي من مدركات نصوص تعدد في أشتغالاتها ولكنها تنطلق من نقطة واحدة هو الشعور المتأمل لعالم الضوء الذي تراه ( بعين القصيدة ) وهو عالم تتعد مراميه وحاجاته ولكنه ينتهي عند ضفاف واحده هو قراءة هذا الوجود بشيْ اقرب إلى التصوف ، أي إنها تحدد المرام بقيامة الكلمة الحامدة حتى في مقاربتها الآلية اتجاه طلب ما أو مغفرة أو قراءة لسحر الخلق .
يقول نيكوس كزنتزاكيس في روايته ( المتصوف ) وهو مانريد أن نطبقه عمليا على عالم فواغي الشعري هذا المقطع من الرواية :
(( أنا المدرار الذي يود أن يمزق النسيج ، وان يقفز خارج منسج الضرورة .أنا الذي يريد أن يتجاوز القانون وان يحطم الأجساد وان ينتصر على الموت .أنا البذرة .
يرد صوت أنثوي آخر منطقي وعميق، صوت أنثوي هادئ وواثق : أجلس واضعة إحدى قدمي على الأخرى ، أنا كلي حليب وضرورة )) ..
الفكرة الشعرية عند القاسمي توازي تفكير الأنثى في هاجس رواية المتصوف حيث ترى فكرة القصيدة لديها إنها كم يريد أن يثبت أزلية الشراكة بين اثنين وإنها في قدرها على ممارسة سلوك شعري ما عندما تريد منه أن يكون رسالة لثبات وجود ولكن مايميز هذه الرسالة إنها تشع بشيء من رومانس التصوف والحمد لتلك الأشياء التي تلف وجودنا خاصة عندما تجد الشاعرة إنها بين يدي الله وعليها أن تنسج نشيدا للحمد لتكون أكثر ثابتا وهي تمضي بعيدا كما نشاهدها في النص الموسوم : ألم المسيح ردائي ) :
(( لمدبر الأقدار في علمه
السر في موتي وفي إحيائي
أبصرت من نور اليقين حقيقتي
ووجدت في ربي عظيم فنائي
أسلمت أمري للذي هو واحد
وقد ارتضيت بقسمتي وقضائي ))
هذا فعل الألتجاء إلى الذات الإلهية بهكذا نمط من موسيقى التشفع في المحصلة النفسية هو طلب لراحة العقل ومن ثم نستطيع أن نقود خطى الكلمات إلى مانريد ،إلى ذلك الهدف الذي يجعل الأنثى في النهاية هي بذرة الخصب للوجود الإنساني ،لهذا نرى إن الشاعرة تهتف بهذا تصوف ليس من أجل إسلام الأمر للواحد على شكل يأس وهزيمة وإنما هي تعود بقدريتها وإمكانية رغبتها لثبات إنها كائن قادر على التغيير ، وان القسمة والقضاء هو في الأخر حقنا الذي علينا أن نقنع به حتى لو اصحبنا بمهابة الأسكندر ذو القرنين .
يشغل هاجس التصوف الكثير من مشفرات فواغي القاسمي ، هاجس يتراوح بين شكله الرباني وأخر يمتد إلى عولمة الحاضر ، في إدراك منها إن الشعر قادر على أن يصنع التحول وإنها كما أنثى التصوف ( رابعة العدوية ) تحاول أن تكشف غيب حالتها في جعل التوحد مع العلا هو جزء من مرام الذاكرة التي ملكتها الحاسة الشعرية لديها في الكثير من نتاجها الشعرية ولكنها ظلت في هذا التوحد محتفية بنوع من الموسيقى هو اقرب إلى السلوك الكهنوتي عند عذارى المعابد القديمة وهو سلوك التضرع إلى شيء ندرك فيه حاجتنا لنكون ونعيش دون الم وتعاسة وخراب .
هذا الشعور الصوفي المصبوغ برداء التجربة والواقع ظل يلازم حس الشاعرة في انتقالاتها الشعرية وظل روي الجملة لديها يديم انقياد المفردة إلى غاية تريدها ، بعض من الجمال ، وشيء من هاجس التحليل ، وكثير من غنائية أنثى تتحمد فيها على ما أعطى الله لها ( الوطن ، الأبناء ، الزوج ، القبيلة ، الشعور اليومي بما يحصل في هذا العالم ) إنها أفعال الشعر في عالم فواغي تتدرج بشكل منضبط ومحسوس تبعا لوقت هبوط هاجسه من الق بعيد ظلت تتمسك بثوبه كما يتمسك الصوفي برداء النور القادم من قلق الذات والمحبة المطلقة .
هذا المطلق حين نطبق فعله على نص للشهقة نشرته الشاعرة القاسمي في (أوراق الشعر ) بتاريخ 21 ماي 2006 بعنوان ( تسابيح القرب ) نجد غنائية هائلة لذات تريد روح الشعر أن تسوق فيها في مطلق التشوق والثناء والتقرب ، لهذا عندما تتكرر مفردة ذات لثلاثة مرات في نهاية كل جملة ( حمد ) نجد اختلاف في معنى أداء المفردة اتجاه المحددات الحسية التي تريد الشاعرة أن توصلها وهي تشهق بهذا الحمد الصوفي إلى العلي ، قراءة صورية بهاجس التشفع تحاول فيه أن تكتسب المزيد من رؤية الوصول إلى ما تعتقد انه من حقها لتكون قيمومة على أخر هو ( الذكر ) الذي يشاركها صناعة الحياة بقدر متساو ، لكنها هنا تريد أن تبتعد عنه في جعل شعريتها نمطا مختلفا وطريقا يعلوها سمو الفكرة والشعرية لتمسح أجفانها بالضوء البهي لعالم النور والتنور ، لهذا فنص مثل ( تسابيح القرب ) هو تسابيح للوعي والخشية من أن لاتحصى بعطف الإلهة ورحمته في ظل اختلاط الأوراق ، لكنها أي الشاعرة كتبت هذا النص لشعورها بأنها ستحصل في النهاية على شيء من الرحمة والرعاية لتستقر فيها هذه الذات وتمضي بعيدا لتكتب :
(( أيها القدوس فردا واحدا عزت صفاتك
ياخلودا سرمديا بحياة هي ذاتك
عالما والعلم وصف ليقين هو ذاتك
وحدك المطلق في الأقدار والقدرة ذاتك
أنت سبحانك لاتحصى بإعداد هباتك
أجعل الكون سلاما وأمانا لتقاتك ))
هذا الحمد الإلهي الذي يسيل بعذوبة تهجي الرؤى في خواطر المتصوفة يعيد إلى وجد الشاعرة في لجة شكر وإصغاء إلى تلك الصنعة الأبدية التي تقودنا كما يقول النص إلى سرمدية الحياة وهي ترتقي بالذات إلى تهجي مايمكن أن يطلق عليه الحلاج ( كشف المكشوف بهمسة الكلمة ) وأعادها النفري بقوله ( إن ذاتك هبة الضوء للبدن كي بتعطر منك بحلو اللحظ والكلام ) وكلا الصفتين هما إغراق في نرجسية التفاعل مع الذات العلا لكن الشاعرة هنا تصنع إدراكا بسيطا لاتريد أن ترمى من اجله بملامة كما حدث مع مفسري الطريقة الصوفية من أصحاب الفقه والتشريع .
إن جملة ( وحدك المطلق في الأقدار والقدرة ذاتك ) هي هاجس للتعبير إن رؤية ماتتخيله مثل هذه المرأة المؤمنة والتي تضيف بحسها مهابة أخرى لمن يتحكم في ذواتنا ، لهذا تجعل من الحمد صلة للولاء وتحاول أن تجسد في شاعريتها معنى التواصل ولكن ليس بطريقة الكشف المركب كما عند أصحاب التكيات .
أن صوفية الشعر لدى فواغي القاسمي تعتمد على حس الأنثى بمن يهب ولهذا هي تركن كل شيء إليه وفيه .
بل وتصور هذه الأحاسيس بحذر ربما يأتي هذا من وعي خاص يتلخص في إن المحاكاة للعلي ينبغي أن تخضع لطقوس ولاء القلب والكلمة لهذا تجد قصيدة ( تسابيح القرب ) كأنها كتبت في محراب .
يقع تأثير التصوف على جملة الشاعر في منتصف المعنى التي تتوسط الفهم الذي تريد به صاحبة النص أن توصله إلى ذهن التلقي ، ومرات تتخيل عن هذه المرأة تكتب من اجل الاحتفاء بموهبتها ولكنها لاتنسي أن تديم نعم الخلق الوجودي على لحظة التفكير بصناعة نص شعري ، فأنت حين تقرا بتأني روح النص ظاهرا وباطنا تكتشف إن القاسمي تصدر وعيا ومشفرات لفلسفة تؤمن بها ، وهي لن تخرج عن مفاهيم العرف ولكنها مؤطرة بهاجس الجمال والعقل والرغبة أن تتميز لحظتها عن باقي أقرانها وهي لحظة تحس بها إنها في فعل التقريب للذات المشعة فوقنا إنما نعطي لتراثنا ووجودنا سموا ومعنى وإبداع لهذا فإنها في كل نص بمسحة التصوف تحاول أن تؤسس للذات المشاعر المهيبة للخالق الواحد ولكي تثبت للأخر إن الشعر كفيل بان يدرك تلك المحبة ويطورها وجعلها بعض رومانس السبحانيات في عالم بات كل شيء فيه يسير بسرعة الضوء .
لهذا فان عولمة فواغي في تصوف الشعر ورؤياه هو شيء من حداثة التجربة ولمسة اضيفت إلى رصيدها لتميزها في أن نقرا لأدب إماراتي أنثوي حديث .
ظل الهاجس المتصوف يقرب ذاكرة التعبد في القصائد ، بل وسعدت في تحديد فهم الموضوعة وقدرتها أن تصنع تواصلا بين الشاعرة ومحيطها ، غير أن قارئ النص في تأمله لروح القصيدة يشعر إن هذه المرأة تمسك غاية الأزل بأثير حمدٍ لاينتهي ، وكأنك تسمع نبض القصيدة وهو يتهدج مايطلق عليه ( نور السبحانيات ) ، تلك الأدعية المتجددة بقدرة الإنسان على إيجاد الملاذ الآمن لكل تساؤلاته ورغبته بان يحصل على رحمة السماء ودفئها وصيرورتها ، لهذا تجد إن القصائد تمد أخيلة الضوء بشيء من سجع موزون وموسيقى تتردد في صدى جملة الشعر كما الحان الضوء الغيبي الذي يطلق مرتدي الثياب البيض من أصحاب الطرائق ، لهذا نجد إن النشوة في إدراك مرضاة الواحد هي هاجس إيماني ينشر إبداعه بجدية في الكثير من التراث الشعري لفواغي القاسمي ، لهذا حين نقرا نص (حبي لذاتك جارف وعنيد ) تشعر بان رؤيا الشعر هي الكشف المفتوح لتخيل العالم بسحرية القدرة على ضبطه هكذا ميزان لتأتي القصيدة أشبه بتعشق لهذا العالم وخالقة ، بل أراها مواددة تشبه في سناها مواددة رابعة العدوية وهي تنادي ذات الذات قائلة : احبك حبان . حب الهوى وحب لأنك أهلٌ لذاك.
عن تلك ( الذاك ) تدرك القاسمي معاناة الرغبة وحلم الوصول إلى هكذا نمط من التشفع والحب ، وهو عرف أصحاب الطرائق وكما في مدلول النص الذي يصل الوله بالنور السماوي إلى مرتبة الشهادة معزة ووصل ، يرونه ( أي نص الشاعرة فواغي القاسمي ) والذين يروا هم ( أصحاب الطرائق ) ، انه ليس فقط حب جارف وعنيد ، بل هو انقياد الذات إلى مايعلوها ، وان هذا الخضوع الشعري للسلطة الأقوى يعني في حقيقته امتلاك قوة التصدي لما نلاقيه في الأرض ومن عالمنا الذي كثرت فيه المدنسات وندر فيه الجمال والخير ، لهذا كان المتصوفة يقولون : إننا نذهب إليه ، لأنه يُقينا لمعان السيوف ولهجة القساة .
انهم ينظرون إلى نص كهذا على انه شيء من لقيا من نتمناه. والحلاج يقول : وجدت في حبي نوره وسروره ، ولهذا اخضع له بكل حواسي .
الشاعرة في نصها ( حبي لذاتك جارف وعنيد ) ترى ذات الهاجس ولكن بإصرار نقراه في العنوان قبل أن نشمه ونراه ونسمعه داخل القصيدة .
((حبي لذاتك جارف و عنيد
وجموح نفسي صارخ و حريدُ
ولقد تلاشت غربتي في صمتها
شوقا يؤجج مهجتي و يزيدُ
ألقيت مرساتي بيم قيامتي
فالموت يعلو و الرجاء يميدُ
أشلاء عمري من أوار جحيمها
و نعيمها ظل الجوى وصدودُ ))
هذا الحب ، هو في عولمته ، حداثة لتشوق جديد ، فيه إدراك لوعي لاتصهره الحضارة في خربشتها وكأنه ( أي النص ) يعيد مقولة عمر الخيام : مافي الجديد إلا سعادة قديمي ، فهو الأصل والفصل ، وله تضئ نجوم مدامي ، وغير ذلك سينتهي عتيقا مثل ثوبي هذا ) .
لهذا نجد إن الشاعرة تصهر كل حواسها في التقرب إلى ماتعتقده انه مطلقنا الدائم ، وأبونا الذي يدرك ماندرك حتى قبل ولادة الأداراك فينا ، لهذا نرى الشاعرة نمضي إلى النهاية في تصوير تأثير هذا الحب الجارف :
((أنهار حزني لا تجف منابعاً
و دموع سهدي شاهد وشهيدُ
لم ينتشيك من الدنان معتق
أو يعتريك من الهوى تسهيدُ !
إني اكتويت من الأسى فترفقا
بذبيح حبك أيها المعبودُ ........))
ااااااااثق2قص......................
في قراءة أخرى لنص من نفس عمق هاجس الذهن في يتحول الاشتغال إلى رؤية ذات عمق فكري مركب حيث تتغير لغة التقرب لكنها تظل تحمل نفس شعاع ضوء وجدانيات الرؤى التي صنعتها النصوص الأخرى غير إن المكرر لم يجد له مكانا في تلك الهواجس فالشاعرة تبدل رؤيتها مع كل لحظة تريد بها أن تكتب نصا لثناء قدريتها مع تلك هائلة من الضوء .
(( هطولك.. إشراقي..
و لأن مزقك.. عويل أبنائي
فلأنك كتبت أقدارك
و خططت أقداري . فلا نواح عليك.
حين انزواء العمر في سديم عتمة وضيق المكان
اهكذا تقسمين الأقدار ؟ ))..
وهكذا هي رائية وجد المرأة ، تمثل في بهجة اللقيا ، وإدراك لحاجة أن يكون معنا ، هذا الذي يريدنا ونريده ، فتكون قراءة الشاعرة لوحدانية دهشتها وعزلة الشعر لديها هي قراءة تأتي من معرفة الدافع الروحي والأدبي وحتى الديني ليجعل هكذا نمط من التعلل تتحكم فيه رؤى التصوف وافتراض كسب مودة ما نحن ننتمي إليه جميعا .
ولوج رؤى أخرى في عالم الشاعرة فواغي صقر القاسمي يتطلب منا أن نتهيئ لنمط آخر من وجدان الشعر ، تلك الرومانسية التي لاتختلف عن سابقتها سوى إنها تمتلك كما كبيرا من موسيقى الكلمات الغارقة في عذوبة جملة الشعر ، ولكنها أيضا بهذه الرومانسية البيضاء تربط أزمنة وتواريخا ، وتعيد في رغبة القصيدة صدى ما تعتقده تراثا جميلا لأزلية الحب ، والتعشق ودوره ي خلق إبداع القصيدة وجعلها صفحة مشرقة ن صفحات التاريخ .
ففي نص بعنوان ( محكاة بن زيدون ) المنشور في أوراق الشعر 17 ماي 2006 .
تكون المناجاة لهذه الشخصية الشعرية المذهلة التي صنعت من خيال وحسن ( ولادة بنت المستكفي ) عالما من عذوبة الرومانس الأندلسي حتى قيل إن ماكتبه ابن زيدون من لوعة التشوق وحب لولادة يساوي كل تراث اسبانيا الشعري في الحب منذ سقوط غرناطة وحتى اليوم .
انه ( أي بن زيدون ) شاعر لوعة وفتنة وفقدان وتجافي .
تتوجه له الشاعرة في محكاة عصرية وبذات النمط التقليدي من كلاسيكيات القصيدة لنرها وقد أخذت من هم الشعر روح الشاعر وارتنا اللوعة بطريقتها الخاصة ، فالقصيدة عبارة عن مقطوعة للمناجاة ملحنة بعود أندلسي وفيها الكثير من عولمة ما يجتاح قلوبنا الآن ، لهذا نجد أن فواغي في قراءتها لمحنة الشعر ومشاعره تحاول أن تجدد مسعى أن يكون ابن زيدون موجودا الآن ليديم عهدا أخرا من الرومانسية والتشوق والكلام اللحن المعبر عن قدرة الشعر ليكون ممثلا حقيقيا عن لوعة الروح وعاطفتها .
إن النص الموسوم ( محاكاة بن زيدون ) هي رائية أخرى مكثفة لما تعرض له الشاعر من حيف وغبن وإهمال ، لهذا جاء نص فواغي مدركا لسعة الألم ولكنه مكتوب بحبر امرأة أرادت أن تلبس بن زيدون شيئا من حياتها وتجربتا الشعرية فكانت هذه الرؤيا ، مبرة بصدق عن روح الشعر لدى الشاعر الأندلسي والشاعرة الإماراتية :
((يا نازحا و ضمـير القـلب مثـــواه
أنسـتـــك دنيـــاك عـبــدا أنت دنـيــــــاه "
يقضي الزمان و لب القلب مســتعر
و الــدمــع قـــــرح بالإدرار عــينـــــــاه
فكيف تســلو محبــا أنت مهـجتــــه
شـــوق الصـبــابة في الأوصال أضـنـــاه
فما بــرأت و لا وجـــدي يبــارحنـي
و لا نـديــــم يســـــــــلـيني فــأنـســــــــاه
يا حادي العيس بلغ من نأى سقـــمي
قــد هـمـت وجـدا بمن في القـلـب سكـنـاه
فيا بـائعــــا حـظــــه منــي بذاهــبــــة
لو ســاءني الـدهــر ما اسـتبدلــت ذكــراه
" عــلّ اللــيالي تبقــينـي إلى أمـــــل
الـدهـــر يعــلم و الأيـــــام مـعـنـــــــاه))
هذه القراءة بهذا الشكل من الرؤية التي تحاول من خلالها الشاعرة أن تمزج عالمين رغم البعد عنهما ، عالم الأندلس بسحره ودولته الضائعة . ووجد هذا الحاضر الذي لازال فيه الألم ماسكا رقاب خواطرنا وقصائدنا من خلال بحثنا الدائم عن الهوية ومدننا وسواحلنا وأحلامنا التي يحتلها الغرباء .
تكتب فواغي القاسمي رومانسيتها بوجدانية متحررة . تعي فيه قدر الصورة والموسيقى لصنع وحدة متكاملة من الشعر . ترينا في مثل هذه اللواعج عالما من المرئيات البائسة والسعيدة ولكنها في الحالتين مليئة بالمشاعر الإنسانية ، وفكتور هيجو يقول ( الشعر من دون وجدان ،حصى مرمية في قارعة الطريق )
لهذا نرى الشاعرة تهتم بهذا الوجدان ويكون البوح لديها حتى في ذاتيته الخاصة بوحا لاستلهام ماتراه بروحها قبل رؤية عينيها ليجئ النص طافحا بالكثير من خيال الرؤية والانقياد إلى المعنى الواضح والمعبر عن شجن حقيقي لشاعرة تريد أن تقف مع القارئ عند تخوم الجملة الواضحة والمعبرة .
نكتب الشعر ، لنجدد الرؤى في حكمة أقول ، نكتبه لندرك إننا وصلنا إلى الفعل والمفعول وان الآخر الذي ينتظرنا عليه في نهاية القراءة أن يشكرنا بقلبه عندها نحس به ونرد إليه الشكر بقصيدة جديدة ، لهذا خلق الشاعر ، وتاهت بين رؤاه التمايزات الطبقية حتى تحس إن الشعر مثل الاشتراكية تذوب فيه كل الفوارق .
عند ضفاف هكذا رؤى نحاول أن نقرا نصا أخرا يفيض بذات الرومانس والوجدان ولذات الإشارة والموسوم (( غرام وشجون))..وهذا النص هو مثال جميل للغة الشعر بصورتها الواضحة والتي تعبر عما تريد بمنتهى الشوق والبوح لمن تعتقده الشاعرة بأنه قريب من القلب ( الزوج ، الأبناء ، الوطن .. أي قريب آخر ) المهم إنها في هذا النص تصبغ ذاتيتها بمدى واسع من التخيل والرغبة والاقتراب من ظلال من تحس إنهم يشكلون الفتنة الحقيقية في عالمها .
نص كتب بأفق مرئي ، وشفاهية الجمل فيه تعكس لذة اللحظة وقت خلق النص وصناعته لذا كانت القراءة للقصيدة قراءة واضحة وليس هناك ذات تريد أن تمسك عنق الضوء لتريه مدى تشوقه للرحمة والغفران والمواددة التعبدية ، لان النص هنا يقرا في ذاكرة أخر تعتقد القصيدة انه يستحق كل هذا الحب ، فجاءت الجمل ناعمة ، هامسة مرتدية معنى فضيلة الحب بطابعه الإنساني الهادئ والذي يشعرنا بالتواصل مع العالم بكل مذاهبه وجهاته (( : أني رأيت بك الحياة رحيبة .................. غناء تشدو بالهوى تلحينا ))
هذه الرؤى هي التي أعطت للنص خصوصيته ليكون نصا للبوح الواضح والموجهة للإنسان القريب ، المتفاعل والذي يحترم قدرة الشاعر على أن يكون خيطا من ضوء فضي يربطنا على هوامش المحبة والخير والتواصل :
((تتراقص الأحلام في دنيا الرؤى
فتهيم وجدا عارما وحنينا
نبض الهوى بين الضلوع قصائدا
نغم على الأوتار كم يشجينا))
هذا شجن العاطفة والحب والاستزادة من لوعة الفراق والتلاقي ، تخلقُ في المخيلة عالما مثير لدهشة الحلم في كل واقعه ليصبح الشجن والغرام سيرة ذات لوجع وسعادة قلب الشعر :
((إنا إذا مالحب أرق ليلنا
ونأى بنا قلنا له آمينا..
فتتيه في دنيا الهيام دروبنا
حتى كان الكون لايعنينا ))
هذه التجاذبات في عدم عناية الكون بنا يخلقها الشعر منذ أزله كحالة تجلي وانقطاع عن الواقع وهي لحظة ولادة القصيدة حيث يتلاشى الإحساس بالمحيط وكذا لحظة اللقيا عندما تتوحد الذاكرة والروح والجسد .
تكتب فواغي القاسمي وجدانياتها بلغة فيها الكثير من الحس والمحسوس ، وتحاول أن تقترب من شجن الكلمات في ترقيص هواجسها باتجاه نمط من موسيقى موزونة بعناية عدا أن تكون الجملة مليئة بدفق من إيمان وإحساس باحترام المكان وتقاليده لهذا يكون بوح فواغي حذرا ولكنه يؤدي غرضه بأكثر من مشفرة وقصد ، أي إن القصيدة في منتصفها تنفلت إلى رؤاها الحقيقة ولم يعد بالنسبة للشاعر الانتباه إلى المحيط ضروريا مادام الشعر ينتهي بالنسبة لها إلى إتمام رسالة من المودة والخلاص والدفاع عن حق مستلب يما يخص معاناة الإنسان أو الأوطان . وقصيدة ( رقاص الساعة ) توضح قصدنا تماما كما في نهايتها :
(( انظر إليك وتراودني أفكاري المجنونة
وهمهمت أن اقتلعك وأحطمك
ألقيك بعيدا من نافذة الانتظار
حتى لو اتهمت بالقسوة والإجرام
والتمرد على الوقت والقانون
ثم توقفت فأنت مجرد رقاص
وأنا اكبر من أن يهزمني رقاص
سيتوقف الرقاص حتما
ولكن الطبول ستظل تقرع ))
يظل هذا الوجدان مسيطرا على عالم الحس والتحسس وتغلب عليه مسحة الموسيقى وهي تؤثث لشيء من مشاعر صادقة تبث من خلالها الشاعرة إشارات إيصال الفكرة وما تريد أن تقوله وهي التي يحسب لها إنها ناشطة جيدة في مجالات كثيرة ومنها مايهم عالم المرأة والاشتغال الوطني عبر إصدارها للكثير من نصوص المعتنية بما فقدنا من ارض وبلاد .
لهذا فان التنوع في عالم هذه المرأة الشاعرة يظل تنوعا مبدعا فيه الكثير من خصب الفكرة ومعاناتها ، وتظل رائية الوجدان أكثر ماتحتفي به تلك الذاكرة الأنثى وهي تخط على أديم الزمن عبارات شجن ورومانس تريد به إدراك أن القيم التي يصنعها الشعر هي أكثر القيم حقيقة في وجودنا لهذا نراها في كل نص تصنع مغالبات الفكر على ماتريد أن تنسجه أو تلونه بشغاف قلب امرأة تتموسق في عينيها رؤية الجملة التي تسفح على الورقة خاطرة قلب شاعر .
لهذا فإنها كما السياب في رغبة انتظار ضوء الشعر تتطلع إلى اشراقة القمر وكأنها اشراقة حياتنا ، فعند بدر شاكر السياب ثمة كركرة لطفولة تحت جدائل ضوء القمر ، فان القمر عند فواغي هو جزء من أسطورة لاتنتهي لتلك المشاعر الضوئية التي تملئنا بحياء الرغبة لنكون ، وهي في نصها الموسوم ( أسطورة القمر ) تحاول أن ترسم بالوصف مكنون هذا الضوء وقدريته على تغيير أشياء العالم .
(( هناك عند ضفة القمر ، سحابتان تغرفان من وجنة الضياء ملامح القمر
وتنسجان من نجومه العذراء قلائد الدرر
ليكتسي من سحرها القمر ))
هذه الكسوة تخيطها أنامل الشعر وتعممها كمشروع للمصالحة والحب على كل الدنيا .
إن رومانس المفردة على بساطة روحه وعذوبة موسيقاه يحاول هنا أن ينقل جزءا من مشاعر أنثى تريد أن تصل بالقصيدة إلى ابتهاج ما يمكن أن يمنحنا إياه ضوء أسطوري كضوء القمر وهي هنا تعادل منطوق النص السومري الذي كان أهل أور يدونه على ألواح التشفع لإله مدينتهم ( سين ) اله القمر .
(( سيتدفق علينا ضوءك البهي ، يملئنا سعادة وقناعة إن هذا النور هو الذي يشبعنا لحظة الجوع ويمنحنا السعادة لحظة الحزن . النور المبارك البهي ، القادر على تحويل الظلمة إلى مساحة أمل نسير فيها عبر دروب الإلهة إلى المكان الذي يمنحنا السرمدية التي نريد ))
وهكذا يصنع عالم الشاعرة الإماراتية فواغي بنت صقر القاسمي . تراث همه وفرحه وإنشاده وصوفيته عبر الكثير من النصوص التي تتنوع في طبيعة رائيتها ، لكن الملفت فيها هي غنائيتها وهمها المتوازن إزاء الكثير مما يحيط بنا كما نراها هنا وهي تهدي القدس نصا مركزا يمتاز بغنائية حزينة تقرب إلينا وجه المدينة المستلبة ، وغير القدس يتنوع هم الشاعر حتى إلى معاناة بلدها ، ليكون شعرها في بغض قصائدها الوطنية صوتا من حماس كبير ، وهي شانها شان كل الشعراء في وطنيتهم ترتفع عندهم مخيلة استذكار الأمة وهي في محنة الاستلاب والاحتلال والحصار والغزو العولمي ، ووسط هذه الضجة واللاجدوى الذي يغرق فيه مركب الأمة حين يعجز عن استعادة ارض احتلت ، تطلق الشاعرة حنجرتها واستغاثتها واساها بقوة وشاعرية عالية وهي تتغنى بالمجد العربي جهارا :
((جف اليراع وصمت الآذان 0000ما عاد يجدي منطق وبيان
وتحجرت بين الضلوع ضمائر 00000لا العهد يحييها ولا بيان
يامن تنادي ميتا ، كف النداء 00000هل تستجيب لصرخة أكفان؟
او تحسبن دم العروبة ثائرا 0000000عهد بأسلاف لنا قد كانوا!
طابت لهم دنيا الصلاح مرابع 00000وتهلت في مجدهم أزمان
لم يعرف التاريخ مثل منارهم 00000علما وما نطق القريض لسان
لا والذي ملك الخلائق كلها 00000لم يمتهن في ملكهم إنسان
كانوا حماة الدين حين نزالهم 0000أسد الوغى ، فانقادت الأرسان
لهؤلاء الحماة الأباة ، ظلت هذه الشاعرة تغالب بوطنيتها وتجاهر بها ، وأحيانا تخرجها من الشعر إلى أنماط أخرى من الإبداع كما فعلتها في أعمال مسرحية واوبرالية حملت في نصوصها قراءة للوجدان العربي ، وأضافت إليها الموسيقى تعبيرا مجسدا عن الذي يجول في خاطرها وهي تقول إنها في هذا الجانب إنما تريد أن تري العالم إننا نغادر جروحنا إلى الرفض والمقاومة بواسطة الهواجس المبدعة فان لها فعل الرصاص عندما تصل إلى أهلنا الهائمين بنشوة التأريخ الطويل من المحيط إلى الخليج .
ورغم هذا نجد إيمان الشاعرة ينقاد بعاطفته إلى أكثر الملاذات الآمنة ، فانك حين تقرا نصها الموسوم ( دموع السماء ) تلتقي بذات الرغبة لجعل الخلاص فلسفة تعم العالم عبر هذه الدموع التي سيغسل هطولها كل الألم الذي نتوجع منه جراء مانتعرض له ، فتعود الشاعرة إلى ذات همسها المتصوف وتجعل من دموع السماء خيطا من الضوء تسلكه عاطفتها التي تنشد الحلم والأمل دائما :
(( ليس ذنبي ، أن تتساقط حقول الربيع
لتتعرى أوراقها ، إلا من ورقة التوت
تستر بها خبايا وجها
وتختبئ ظلال الليل خلف إنسدال ظلمته
لينساب الهمس دافئاً ))
هذا الهمس الدافئ ، ظل يمسح برغبة الشعر كل هواجس عالم التخيل الذي ملكته الشاعرة فواغي القاسمي وأعطى لقدرتها الشعرية ميزة أن تكون قدرة تعي محتوى القصيد وهدفه في عالم كثرت فيه المتغيرات وتبدلت أردية المذاهب لكنها رغم كل الذي حصل ويحصل تمسك شمعة الكلام وتمضي حيث قدر لها أن تكون .
وحيث يجلس الشعراء قرب نقطة الدلالة المضيئة تلك التي تفسر العالم وفق مزاج الإلهة بأنه عبارة عن محيط من الحلم تغرق به مزاجات البشر من شتى الأمم والشعوب وبينهم من يتميز بحسه ومكانته وموهبته ( ذلك هو الشاعر ) ..:\
(( لملمت فيها مالقيت من الأسى
وجعلت اجمع غربتي ورجائي
فصنعت من جور الزمان قلائدي
ونسجت من الم المسيح ردائي )
هذا الرداء ، الجميل ، والمتألم ، والورع ، والرائي ، ترتديه فواغي القاسمي وهي تكتب شجنها اليومي بعاطفة الشعر وخيالة لترينا ذائقة أخرى لأنثى عربية من إناث الشعر ))
* فصل جديد من كتابنا الموسوم (شعر الجزيرة العربية. موسيقى الرمل وروح الأسطورة ولؤلوة البحر ) والذي نشرت فصوله المنجزة في موقع جهة الشعر وصحيفة الزمان الدولية وهي لعبد العزيز المقالح ، كمال سبتي ، خزعل الماجدي ، قاسم حداد ، سعاد الصباح ، سيف الرحبي ، هيلدا إسماعيل ، منى كريم ..