قراءة في قصيدتي أرن و رند
ممدوح الحربي
تعتمد هذه الدراسة على استقراء ماخلف النص ،وهي تحاول أن تسلط الضوء على ثنائية الوجود الكبرى ، تلك الثنائية المتأرجحة بين كل ماله دعوة نحو حياة أو خوفا من موت ، كما أنها حاولة لكشف ماهو مخبوء من أنساق ثقافية ، بدت وكأنها من مسلمات الفكر الجمعي في العقلية البشرية ، هذه الأنساق ، تحاول بقدر كبير أن تطبع العرف وتجعله تبيعا لها حيث يفكر في نطاقها ، وأن تستمر حياته بناء عليها ! هذا مايكشفه أحد النصوص بشكل خفي مبهم ! وهذا مايحاول أن يشرق به النص الآخر !
وقد اعتمدت في دراستي هذه على الدرس الأسلوبي ، علني أكاشف بعض مايضمره النص من تجليات لهذه الفلسفة ودعوة إليها ، ولم يكن ذلك إلا من خلال السعي وراء بعض الصيغ المستخدمة في النص ، والأفكار الموشاة به ، تلك التيأعانت على كشف الطريق إلى ذلك الإنسان !
من ناحية المطلع :
في قصيدة رند الجميلة بذكر اسمها رند وكأنها تُسأل عنها ؟! لتجيب . وكأن فحوى الإجابة أعانت على معرفة السؤال ! حدثينا عن رند . والحق يقال أن الأسلوب الحكائي هذا أقدر على سلب المشاعر مكنونها ، وأصدق الطرق للوصول إلى معاني الجمال المبتغاة ، والعشق المختلف عن غيره . وكأن الحديث عنها كان جراء سؤال عنها ، والقصيدة جوابا عنه !
رند لها بين الضلوع كيانُ يختال من شجن ٍ بها وجدانُ
أما بالنسبة لــ " أرن " فقد كان المطلع أكثر ذاتية ، فيه تقرب ، وتدليل فيه ود ، وكأن شاعرتنا تناجي من خلالها ؛ الذات لتقول:
عيناك ماعيناك يازهر الندى إطلالة الامواج في الشطئآن
وإذا ماتدخل المعنى الاسمي لــ "أرن " فهي تعني وفرة النشاط فالانسجام بين المعنى ، وقولها : " إطلالة الأمواج في الشطئآن" ملحوظ ، ولقد خصصت العينين دون سواهما للتأكيد على المعنى الذي في نفسي ؛ ألا وهو : هذه أنا !
الاسم ودلالته في النص :
تعبر شاعرتنا عن نفسها ببنتيها بذكاء منقطع النظير ، وتتخذ منهما قناعاً لذاتها المتعبة ، كون القصيدة التي تخلو من هكذا توظيف عن طريق بنائها وفق فكرة تتخلل هاجس كاتبتها ، قد تمر دونما استفزاز لقرائها وقد لاتغري نهمه ، إلا أننا نجد شاعرتنا فواغي القاسمي تسلل أفكارها بناء على ثقافتها المنغمسة في ذاتها والتي تعتبر جزءا لايتجزأ من شخصيتها ، فالقصيدة عندها قوية بقوة ثقافتها ، لذلك نجد فكرة النص تبقى وفية له من أوله حتى آخره .
(رند - الشجرة )
رند : في معناها اللغوي هي الشجرة ذات الرائحة الطيبة من شجر البادية ، وهي كذلك طيب العود ، لاجدال في المعنى وإنما ما يهمنا هنا فكرة توظيف الاسم داخل النص ، وكيف أنه ذكر في بداية النص وفي ثناياه بشكل متكرر ، ثلاث مرات دلالة على التأكيد ، وكيف أن معناه اللغوي وظف في النص عبر صور مستوحاة منه كشجرة !
رند لها بين الضلوع كيانُ ***** يختال من شجن ٍ بها وجدانُ
تشدو غناء العندليب بصوتها***** فتميد من طرب به الأفنانُ
وقولها
يا وردة ملأ الوجود عبيقها ***** رند تضوع من شذاه زمانُ
وقولها عبر أسلوب النداء :
يا رند أنت الروح و الراح التي ***** تحيي النفوس وتنتشي الأشجانُ
جاء كصرخة تأكيدية على الحب ، والتوق إلى العمر المنصرم ، والذي بدأ يتبدى في " رند - الشجرة " كآخر ثمرة ، تلقي بها الشجرة ، وتظل تراقبها في خوفوحرص شديدين ! نجد " رند " لها بين الضلوع كيان ، وليس أي كيان ، إذ هو يمارس هيمنته على الوجدان ، في شجرة ثابتة بين الضلوع ، تفرح ، تؤلم ، تطرب ، وتمرح ، فكل مايصدر عنها ويختبيء في ملامحها ، يشعر بالسعادة فـ" رند - الشجرة " تخبيء بين أغصانها صوت العندليب ، ويفضح هذا الجمال وهذه العذوبة ، أن تميد هي فتحرك القلب ، فتميل بأفيائه الخارجية والداخلية إليها " شجرة / وظلاً " ، إذا " رند - الشجرة " ليست إلا صوت الانبعاث الداخلي ، وصورة الأمس التي تتكرر أمامه !
(أرن - الأم ) :
تلك هي الكبرى ، ولقد دلل على ذلك الحروف المكونة لهذا الاسم الجميل ؛ أشعر وكأن الشاعرة تعشق حرف النون، ربما لدواعيه الموسيقية ، أو كونها أنثى فهي تعزز من النون ، ظناً منها أن كل نون " نون نسوة " ، اعود إلى " أرن" ذكرت أنها الكبرى ، ولقد قادنا إلى هذا التوهم الفعل " أرنو " هذا الفعل الذي يعني الهبوط ، والنزول ، يعني الإحاطة ، والرعاية الدلال بكل معانيه ، والخوف بكل أساميه ! إضافة إلى ذلك أنها - وإن لم أدعي - الكبرى ، أي أول الفرحة ، التي تعني وجود صديقة ، ستكبر يوما ً ، وتكون مستودع الأسرار والقصائد الطوال .
" أرنو إليها والرؤى تجتاحني " كأن الاقبال عليها اقبال على العمر الغائب ، ذلك العمر الذي ولَّى وعاد من جديد على صورة مثلى ولكن بشكل مختلف ، بشكل أشبه بلوحة مطر تعيد كل شيء من جديد ! " فتتيه " ليس التوهان هنا فرط الإعجاب بالآخر ، بقدر ماهو تشظ للزمن ، وفجاءة الكرة ، بنسق جديد قد كان مضمرا في علم الغيب ، يكاد يجعل العودة إلى " القصيدة / الأم " أسهل مما يكون ، ولكن بشيء من الاحتراق !
" رند - الشجرة " و " أرن - الأم " مقاربة زمنية :
نجد أن " رند - الشجرة " حلت كفكرة غطت النص بأكمله ، أو أنها كانت معادلا موضوعيا للربيع ، حيث أن لوحة " رند - الشجرة " وإن تعددت أشكال الربيع فيها من " شجرة ، وردة ، وطيور ، وزهرة " كان ذلك الحشد كله من قبيل الإغداق بالعطف والحنان ، وربما كان السبب في ذلك سببا " زمانيا / ومكانيا " إلا أن الأولى تتبع هذا الخيط لابد من أن نعي جيدا أن " رند نشيد الحرية " ولم تكن ثباتا في القلب ، إلا للإيحاء بشيء من هذا ، فهي الوصول للنهايات وهي قناع تسترت به الشاعرة لكي تتحرر من أفعال التعب والخوف والانتظار لذلك وصفتها " بالملاك براءة"!
ثم تعود شاعرتنا من خلال الأفعال التالية : " حاكت ، نسجت " لتؤكد على ماذهبنا إليه ، حيث أن حاكت دلالة على الزمن الماضي ، ودلالة على فعل بدأ وكاد ينتهي أو هو على وشك الانتهاء ، ثم جاء الفعل " تجانست " ليبشر ببلوغ النهاية والوصول للمراد !! حيث أن الألوان بدأت تتشكل وتتجانس ي هذه اللوحة الزمنية .
" أرن - الأم "
تتمثل " أرن " في صورة " الأم " من خلال ما نلحظه من تصوير لمراحل العمر داخل النص ، ونحن لانستطيع تتبع هذه الصورة العمرية إلا من خلال الأفعال الموزعة داخل النص ، ولقد جاءت متوالية بشكل مرتب مهيب في المقاطع التالية : " تتوثبين الخطو في غنج المها " ، " وتحدثين النفس عن لغة الهوى " ، " فتحاورين القلب بالأشجان" " أرن وفيك من الرعونة وصفها " ، ثم نتفاجأ بتأكيد الشاعرة على ماذهبنا إليه وذلك في ختام القصيدة ، وفي الشطر الثاني بالتحديد حينما تقول : " نغما يردد صدى الازمان " أليس هذا الشطر يوحد بين " أرن ، والأم " ليجعلهما شخصية واحدة !
بين يدي النص :
على المستوى الايقاعي في النص ، نجد أن " النون " كانت قافية لكلا القصيدتين ، ففي الأولى كانت النون مضمومة مما يتناسب مع فكرة " الشجرة ، رند " والتي تعني الثبات وبلوغ الغاية والاطمئنان .
أما في القصيدة الثانية فنجدها " مكسورة " وممتدة إلى حد التأوه ، وكمااسلفنا لم يكن ذلك إلا لأن الزمن يتمثل نشاطه وعنفوانه في " أرن " . وكذلك نجده في القصيدة الأولى في بعض الأفعال " جاءت - حاكت - تجانست " بشكل يوحي بالهدوء المفضي للنهاية وقد أشعرنا بذلك ترتيب الأفعال وراء بعضها البعض بشكل منسق ومنظم ، وحرف التاء المهموس الذي أدلى بهذا الشعور.
وفي النص الثاني نجد الأمر مختلفاً نوعا ما فالحركة هنا أكثر نشاطاً " تتوثبين ، تتحدثين ، تتحاورين " ولكنه أشبه بالنشاط الراقي !
أما بالنسبة للمستوى التركيبي فإنا نلحظه من خلال الفعل " أرنو " والاسم الذي وظف في النص " أرن " في النص الثاني ، وكأن التطابق بينهما يدعو إلى المراجعة أو التذكير من قريب ! وكذلك نجده في الأفعال " تتوثبين – تتحدثين- تتحاورين " مما جلعنا نقترب لفكرة القرب والاحتواء المطلة من خلال هذه الأفعال ، والتي تؤكد عليها الشاعرة ، مما يدلل على الرقي والاقبال على الآخر ، مما يحيلنا إلى اقتناص ملمح حضاري في هذا الأسلوب وهو انعكاس الحياة الأرستقراطية التي تعيشها الشاعرة وعائلتها ، على شعرها !
أما في النص الأول فنجد البعد الدلالي يكمن في " تشدو - تميد " دلالة على المرحلة العمرية ، المرحلة التي تعيشها الابنة والتي تعكس مدى الفجوة الكبيرة بينها والأم ، مما كثف صورة الربيع ، سواء كان بشكل واع أو غير واع ، من خلال بث الألفاظ الموحية له كــ " العندليب - ماس البنفسج - ياوردة " وكذلك في الأفعال " جاءت - حاكت - تجانست " التي أعطتنا القدرة على رصد المراحل العمرية في النص ، فلقد " جاءت ، أرن " ثم " حاكت ، الأم " ، ثم " تجانست ، الأم / الابنة" لتتم عملية التوحد !
لاأقول أن القراءة كانت وافية لكل جوانب النصين جميعها ، بل جاءت كمحاولة لابراز الفكرة الأسمى في كلا النصين والتي كانت مصدر قلق لدى شاعرتنا ، مما جعلها تتناوب الركض من وإلى " رند - وأرن " كي لاتسجن خلف قضبان الزمن ، وهو الميكانيزم المحرك لهذه التعويذة الشعرية ، والذي يجعلها تتأرج بين مطلقي " الثبات - والحركة " ، بين ثنائيتي الوجود " رند - أرن "
الأربعاء 23/ / 1433هـ
13/ / 2012م
ممدوح الحربي
إلى الشيخة فواغي القاسمي