قراءة في نص" شوق ولهيب" -" ديوان ألم المسيح ردائي"- للشاعرةالشيخة فواغي القاسمي -بقلم ممدوح الحربي :
تتأرجح الشاعرة فواغي القاسمي بين لغة الشعر الرومانسي الخلاق ، و الأساليب الفلسفية المظللة للنص ككل علاوة على ذلك قدرتها على استخدام التقنيات الحديثة في كثير من نصوصها ، كالقناع ، والاحالات الثقافية المتعددة من شخصيات ، وأقوال ، وإرث ديني ، وكذلك محاكاتها لكثير من النصوص السابقة ، الديني منها والإنساني !
على سبيل تقنية التناص ، ومحاولتها في كثير من الأحايين اشراك الحواس في نصوصها كبديل عن الكل من أجل أن تقبل كشخصية جريئة تصرح بما تريد حالها كحال أي إنسان ! هذا من جهة ، ومن جهة أخرى محاولتها خلق لمعرفتها بقدرة الأسلوب البلاغي على استكناه تأويل القاريء واستثارته حين القراءة .
يعتبر نص ( شوق ولهيب ) من دويوان " ألم المسيح ردائي " من النصوص الذاتية حين قراءته والتي تجسد من خلالها الشاعرة قضية الأنثى في عدم استطاعتها بالاعتراف بمشاعرها تجاه من تشعر به ، وتختاره من بين الناس ، لانريد أن ندخل في مهاترات قانون التقاليد والعادات بقدر مانريد أن نتوحد مع النص ونستلذ بما فيه من لغة رقيقة معبرة ، لعبت فيها الحواس دور القاضي في هذه المسألة !
تقول الشاعرة في مطلع القصيدة :
أي سر يعتري شوقي إليك إن شوقي حائر في مقلتيك
تبدأ الشاعرة بأسلوب الاستفهام الانكاري التعجبي ، حيث أنها تتنصل من عدم معرفتها بما يحدث - كونها أنثى - لكي تبتعد عن العذل القومي في مثل هذا الاعتراف ! ولقد جاء وصف هذا الشوق بالسر ، ليتجانس مع ماذهبنا إليه من تخليها أو خجلها من كشف العلاقة ! وماقولها : " إن شوقي حائر في مقلتيك " إلا من أجل أن ترمي به بريئا - ربما - أو لتتعالى أمام كونها أنثى ، تُتَبع ، ولاتَتَبع ! رغم أن العيون أقرب الجوارح للإفصاح عما يسره الإنسان ، وتصنف بأنها أقرب الطرق للوصول للآخر ،ووصول الآخر من خلالها ! إلا أننا نجد أنفسنا بصدد حيرة متساوية عند كلا الطرفين ، المشتاق والآخر .
يكاد السور يتهاوى عند المشتاق شيئا فشيئا ، أو عله يوميء بإشارة للآخر ، بأن هناك فرق ، وبون شاسع لابد من ملاحظته نفسره بقولنا : عينايا ليست كعينيك ! فهي لاتشبه حيرة عينيك ، تلك التي تزيد في الإنكسار والذبول ، لتتهاوى أمام مدمعيك كقصص الأحلام التي ضاعت هباء أمام هذا الجبروت :
وتناهيد الهوى كم أذبلت نظرات ترتوي من مدمعيك
تتهاوى بين آهات الجوى قصص الأحلام أتلوها عليك
نلاحظ وجود المفارقة هنا ، خاصة حينما ذكرت الشاعرة الفعل " أتلو " ، فمن طبيعة التلاوة أن تجعل من الآخر ينصت ، ويتأثر ، يعجب ، يراقب الشعور ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، إلا أننا لانخلع عليه صفات فعل المتلقي ونحققها له ، سوى ما كان من الاستماع فهو جائز وممكن . خاصة وأن الحيرة هي عنوان هذا النص - على حد الوصف - فهي تتلاعب بالمشتاق ، وتلزمه أن يحرك الآخر ، ويجيش بعواطفه وبغيرته بالتنازل ، أمام الكم الهائل من المشاعر المتدفقة في هذا النص .
وأرى أن الاستماع الذي أشرت إليه تتجلى صورته في البيت الرابع وهو فعل طبيعي يملكه الآخر ويعمله أثناء الاستماع !
وليس للشاعرة هنا إلا أن توظفه بشكله الطبيعي والمعتاد ، إلا أنها حاولت أن تجمل عملية الاستماع من خلال : " شنف ، وشدو ، وهمس " علها تزرع الاحساس في العلاقة الصامتة هذه وتوهم القاريء بفعل المشاركة في هذه العملية العشقية ،بينها وبينه ، وذلك لغياب الأصل . والتي حقيقة غائبة في الآخر ، وكان لابد من تفعيلها مع القاريء !
شنف الآذان شدو آسر همس الحب به في مسمعيك
إن التشنيف في حقيقته المقصود به كان في السابق تجميل الأذن ، وهو خرقها من الأعلى كما هو مشاهد في وقتنا الحاضر من جعل الأذن محلا لأكثر من خرق في أعلاها وأسفلها ، وتحميلها مالاتحتمل وهي بهذا المفهوم أو بمفهوم الاستماع بشيء من الاهتمام ، لاتخرج عن معنى الجمال في أعلى درجاته ، وأقوى امكاناته ، وهو عشق الأذن السابق للعين أحيانا !
ألهبت تلك الحكايات دمي أي سحر أيها الصب لديك !
ألهيب الحب أم ماذا ترى ذلك الجوري يغشى وجنتيك
ألهبت تلك الحكايات دمي ، توظيف للون هنا بشكل جميل وخلاق ، وجعل الدم يأخذ وظيفة الحطب في الاستمرارية كون أن الحكايات لايناسبها إلا السمر والسهر ، ولايتم التدفق بحرارة إلا لوجود المتعة ، حتى وإن كانت في حيز الخسارة ألهبت تلك الحكايات دمي ، لذلك كان لابد أن تحكى ، ولابد للآخر أن يستمع دون شكوى ، وأن تتبرأ الشاعرة من كونها معترفة هنا بحبها لكي ترمي به بريئاً ، مع أخذ احتياطات الاعتراف ، كما في قصة يوسف عليه السلام " ماهذا بشرا" هنا نوع من التناص الغير مباشر ، جاء بالمعنى ، يخدم ماذهبت إليه الشاعرة من الجرأة في الاعتراف ولكن بتحفظ قد صرح به هذا السحر الذي لايقاوم .
ياغراما طالما أطربنا يالعشق شارد في ناظريك
لذلك كان الشتات والحيرة سمة بارزة في النص وفي مثل هذا الاعتراف ، فنحن بصدد سر " روحي ، معنوي ، خفي " وآخر " ظاهري ، حسي " أدلت بهما الشاعرة كي تبرء نفسها من لوثة الاتهام في عالم العادات والمرتكزات الحياتية التي تمنع الأنثى من الافصاح عن مثل هذا الاشتياق ، والذي يخالف العرف الاجتماعي والقانون القسري الذي سنه المجتمع وتشربته العائلة .
تركز الشاعرة على حاستي السمع والبصر ، خاصة فيما نشاهده في البيت السابع والثامن والتاسع ، ثم تتوالى الحواس بعد ذلك تباعا في النص وتتبعثر إلا أنها لاتخرج عن مدار الحاستين الكبريان ، والمستحكمتان في النص !
واجعل النجوى رفيقا كلما حار وجد هائم في مقلتيك
أشعر بأن بداية البيت التاسع ، بداية تذمر ، وفرض سيطرة من خلال بكاء على استحياء من قبل الأنثى ، من خلال أفعال الأمر " اجعل ، ضمني ، اسقني ، فادن " والتي جاءت متوالية حتى نهاية النص ، والتي من شأنها تعزز موقف الحيرة المستحكم على النص ، وكذلك موقف المشتاق الضجر ! والآخر المبالغ في عدم مبالاته ، لذلك كان الرضوخ حاصلا في " النجوى رفيقا " لكي يستمر مشهد العشق المزعوم ، فهاجس الكلام أصبح كابوساً مفزعا لقصص الأحلام، والحكايا ، لحلو الغناء ، للنجوى !
ضمني روحا وقلبا هائما وجراحات هوت في راحتيك
ضمني روحاً وقلبا ، تم اقصاء الجسد هنا لينسجم مع عملية النجوى ، فعل الضم ، مع الحيرة ومما يقوي مانذهب إليه الفعل " هوت " ، فبدل أن يهوي الجسد بعد عملية الضم ، هوت الجراحات ، وهو تعبير في قمة الابداع والروعة كوننا اللغة المحافظة والرصينة هنا لم تغب عن ذهن الكاتبة ، وكذلك أن الانتظار ،المتجذر منه الاشتياق ، عمل على اثخان الأشواق لتهوي حين اللقاء تبحث عن التطبيب ! وكل ذلك جاء على سبيل التشخيص ، حيث اوكلت الشاعرة صفة السقوط الخاصة بالجسد للجراحات المعنوية الغير مرئية ، لكي تلفت الانتباه إلى الروح ، التي تعد سر الثبات ، فانهاكها يعني السقوط والزوال .
واسقني من شهد هاتيك اللمى خمرة تسكرني من شفتيك
تأكيد على غياب الكلام ، والصوت هنا ، واستحكام الصمت الذي لايناسبه إلا الذبول ، أو علنا نصدق حينما نقول : اغراءنا للصمت قد يجدي نفعا ، فالخمرة هنا ليست صوفية ، معنوية ، بل هي حسية ، تذهب العقل لها نفس نشوة الخمرة الحقيقة ، إلا أنها هنا لا تعقر من كأس فتشرب ، بل هي من شفاه قادرة على هدم ذلك الجبروت ، لتزيل صفوف الدفاع أمام نية الاقتحام ! " فادن مني " ، أيها الخائف المرتعب ، فما بعد أسر الهوى أسر ، ولاحياة دونه منتظرة ، لذلك جاء الحكم قمعيا هنا ، كون الآخر خياليا ، لم نسمع شهادته بعد ، أو تبرأته لنفسه ، أو رغبته في المشاركة في هذا الشوق !
تغلب على هذا النص الذاتية ،ومحاولة لتجسيد العلاقة التي قد تكون بين اثنين مختلفين ، قد لاأزايد لو قلت يدخل فيها الكثير من الفروقات الفردية " اجتماعية ، واقتصادية ، وسياسية " كلا الطرفين يشعران بها ، ذا المكانة العالية ، وذا المكانة الأقل كون مانعيش به من احكام عرفية مجتمعية ، تخلق هذا الحاجز الشعوري ، الذي يؤدي فيما بعد إلى خلق تصنيفات حياتية يتعارف عليها المجتمع ويؤمن بها ، هذا على سبيل شخصيتين مغايرتين ، فكيف يكون الحال مع خلافهما ، ويتقاسمان الأعراف نفسها ، ويخشيان احداث صوت !
ممدوح الحربي