نزار حاتم
06/11/2010
أبتلي مشهد الشعر العربي مؤخراً بقوافل ممن يسبغون على أنفسهم صفة الشاعر ، فيما هم لم يتوفروا بعد على أبسط المقومات المتصلة بهذه الصفة . بيد أنهم - وللأسف - قد وجدوا في كثير من المواقع الألكترونية والصحافة الرثة مساحة كبيرة لممارسة الأدعاء والتطفل مادامت هذه المساحة لا تفتر عن نشر كلماتهم المبعثرة والمشحونة بأخطاء نحوية مفزعة دونما معيار فني وبنائي يميز الشاعر الحقيقي عن غيره من هذه القوافل المتعبة بامتياز .
من هنا أصبح العثور على شاعر ذي تجربة شعرية متماسكة يمثل فتحاً مبينا ، وأملاَ في الخروج من العتمة وحالات الهوس المراهقة ،الى وجهة الشعر المضيئة بالتجربة الثرية والمعافاة .
اطلعت مؤخراً على عدد من قصائد الشاعرة فواغي القاسمي فآثرت المثول أمام مرآتها الشعرية التي صقلتها بعناية تستحق التأمل فيها طويلا طالما وضعتنا أمام قصيدة من الواضح أنها ترتّب فضاءها بعناية كبيرة لتمثل في بنائها المتوزع بين العمود والتفعيلة ، دالّة على تجربة وهبتها عذوبة المفردة وألفتها مع الأخرى باتقان يضع المتلقي أمام الحالة الشعورية المختزلة باللفظة الموحية التي هي الشعر بأجلى معاني العملية الشعرية .
في قصيدتها ( زائري في ليلة صيف ) تأخذك الشاعرة فواغي عبر الأيقاع المتواثب في تفعيلات الفراهيدي الى بهاء مفتوح لم تقف القافية حائلاً دون احداث الصدمة المشعة التي تحرص على ديمومتها من خلال تكثيف الصورة وتوزيع الوانها وفق معايير فنية متقنة نحسها بوضوح عبر استدعائنا السريع لشواهد سريعة.
" وفجّرت َ كل َّ حنين السنين
وشوقا ً تحجّرَ في مقلتيّــــــــــا "
هذا التفجّر المشبوب بالعاطفة والحنين المتراكم لم يعد كافيا لدى الشاعرة فواغي لاستيعاب تدفق الأحساس العميق لذا فتحت أمامه صورة أكثر دهشة بتحجر الشوق في مقلتيها .
ولكي تعبر عن حالة التماهي الذي تبتغيه مع لواعج مستعرة عمدت الشاعرة الى استدعاء الممكن - المستحيل كما نلحظ في البيت التالي :
" مددتُ يديَّ لأنظرَ ماذا ؟
فأبصرتُ روحك في ناظريـــــــــــّا "
لقد مزجت الشاعرة الحواس ببعضها ، فلم تعد الحواس السابقة صالحة لما هي فيه ، تعطلت ، فقدت قدرتها المألوفة واندفعت لحظة جديدة ارتبك فيها الوجود
فتغيرت مهام الحواس بحيث استدعت اليد لتعين العين في رؤية الخيال.
وفي قصيدتها التفعيلة ( مساء شفيف ) تتمدد الشاعرة فواغي على نصها الشعري كما لو أنه يكتبها ،ويستفز ّ أعماقها ليحرك فيها غيمة شاردة ، أو وجعاً غافياً على طقس يبدو عاديا - أول وهلة - لكنه سرعان ما يتخذ ايحاءات مبهجة حينا ،وحزينة حينا آخر ليبلغ ذروة الحضور والممانعة في لوحة مائية تبعث على الظمأ
" وأن الليالي تقيم احتفالاتها المزمنه
على وقع موت النهار "
صورة نابضة تحملك الى تخيّل موت النهارات ذات الايقاع الذي تقيم عليه الليالي احتفالاتها المزمنة ، انها لقطات في الكاميرا الشعرية ذات الحساسية الشديدة في استدعاء صورة الطبيعة وتوظيفها في بث مباشر للكامن في نفس الشاعرة ولحظة انفعالها في داخل النص ليحتضن بالكامل مساءها الشفيف الذي ترغب في الاستحواذ على مقترباته بلغة هادئة وعميقة هي طقسها المسائي الخاص .
كما أنها لا تلبث في هذه القصيدة حتى تجعل من هذا المساء كائناً يتحرك في الوجدان حيث أَضفت عليه صفة الدفيء - على وزن فعيل للمبالغة - في الحميمية والمُتوّجة بالأقامة في الذات المشتعلة بنيران اللحظة الشعرية .
" مسائي وديع ٌ دفيْ ٌ حميـم
مقيم ٌ بذاتي كأسطورة من خيال "
وفي الوجع المتفجر حزنا على الشاعر الدمشقي الكبير نزار قباني في ذكرى رحيله استحضرت الشاعرة فواغي فضاء القباني الشعري كما لو أنها تتحدث اليه عن قرب .
كما أنها في قصيدتها ( رثاء الشاعر الدمشقي ) قد أبدت حذرا شديدا من الأستغراق في صورة الحزن والسوداوية لتبقي نزار قباني في عرائشه العاشقة دوما ً، وفي مفرداته النابضة بالبهجة والحب الكبير .
لا شك أنها في هذه القصيدة سجلت نجاحا ً بارزا ً في الموائمة بين النواح والغنائية التي تمليها لحظة الرثاء لشاعر مثل نزار قباني طالما غنى كثيرا حتى للجروح التي أصابت الأمة ، لأن عواطفه غير مجتزأة في الحب وفي الثورة وفي الوجع.
بتساؤل محموم ولغة شفيفة هي الأقرب الى اللغة النزارية اندفعت قصيدة فواغي :
" نزار رحل ،
وأغلق باب القصيدة
فماذا تُرانا سنكتب يوما ً
اذا ما أُبتلينا بوحي الكلام
ثم تنتقل من هذا المقطع كما لو أنها تصب الزيت على النار الى مقطع آخر مشدود للتساؤل أيضا
" أنحرثُ بين حنايا الحروف
وتحت ظلال السطور
وبين سنابل قمح الشفاه
وحيث الينابيع والياسمين
لعل نزار يكون هناك "
وكم هي كبيرة هذه الشحنة الشعرية المكثفة حين تتجلى بالنداء المتكرر غير الممل
" نزار .. نزار .. نزار
لمن يا تُرانا سنكتب يوما ً
وكيف نروّض فوضى الكلام
وكيف نغازل صوت المطر
فمنذ رحيلك عنا ، نزار
تركتَ القلوب
تجر خطاها كما الأرمله "
صورة كرستالية لكنها حزينة ونائحة ترسمها الشاعرة ، فالشاعر الذي تعوّدنا قراءته وسماعه ، اكتشفنا فجأة ً أننا نكتب له ، أو نكتب لأنه موجود بيننا ، ليضيع بعد رحيله مبرر الكتابة .
ومن هنا يحسن القول : ان هذه الشاعرة التي تربّي هواء قصائدها بهذا النحو لجديرة بالأحتفاء مادامت قادرة على ايقاظ شجرة الشعر الوارفة بوجه الرمال الزاحفة نحو جسد القصيدة العربية المجلل بفساتين الأبداع .
نزار حاتم