نقد قصيدة عشتار
(( فلقد عزفت على المشاعر
يا صديق الوجدِ
ألحان الأنين ِ))
لفتت نظري هذه العبارة الفذة في قصيدة تتكلم عن تجربة قاسية مرت بها من وصفت نفسها بعشتار ..
في بداية القصيدة تأتي الكلمات هادئة صافية ؛ رغم ما تحمله من مرارة وآلام ؛ وهذا يدلنا على ثقة الشاعرة في قرارها الذي تـُهيؤنا له والذي جاء بعد طول روية ؛ بعيداً عنالانفعال ..
ولا تكتفي بهذه التهيئة النفسية ؛ بل تؤكد له ولنا – وربما لنفسها أيضاً - أن القرار القادم لم يصدر إلا عن تفكير عميق وتستدل على ذلك بأن مصدره هو هو نفس المصدر الذي صدرت منه – تلك - القرارت السابقة – الحنونة - والتي ربما سيتعارض معها ..
( أنا لم أكن يوما
بعمقِ مشاعري
تلك التي أذكتْ
حنيني)
؛؛؛
ثم انصرفت عنا فجأة إلى الحديث بضمير المخاطـَب ؛ بعد أن كانت تروي لنا حكايتها ؛؛
وهنا أريد أن أعبر عن المعاني المتنوعة التي قرأتها في هذا البيت المتفرد ! :
(فلقد عزفت على المشاعر
يا صديق الوجدِ
ألحان الأنين )
تحول الضمير للخطاب مع البداية الشديدة : بـ ( الفاء ) و ( اللام ) و ( قد ) ؛ يجعل السامع يحبس أنفاسه لعظم ما سيأتي ؛ وجملة ( عزفت على المشاعر ) هي بداية سرد لائحة الاتهام !
أما ( يا صديق الوجد ) ففيها :
أولاً : تحييدنا تماماً – نحن السامعين - عن مجرد التفكير في قبول الاتهام أو رفضه !!!؛
فخطابها لصاحب الشأن مباشرة ؛ صرف أذهاننا عن مجرد التفكير في قبول أو عدم قبول الاتهام ؛ إذ الأولى أن يرد المتهم الماثل المُـخاطب – أمامنا - والذي لم يحرك ساكناً !
ومع أن كل اتهام قابل للأخذ والرد ؛ إلا أنها وبكلمتين لا أكثر استطاعت بذكاء .. لا بل بعبقرية ؛ أن تنقلنا من هذه المرحلة بكل هدوء .. إلى مرحلة النطق بالحكم والتي يتلو فيها القاضي الاتهام كالحيثيات التي يقر بها المتهم والتي سبق تداولها ؛
ثانياً : رغم الهدوء البادي في قاعة المحكمة إلا أنه لا يفوت أحد هذا الاتهام بالتعمد ؛ فلم تكن هناك مشاعرٌ أصلاً
من طرفه ؛ بل كان هناك استغلال لهذه المشاعر واسخدامها وسيلة للاستدراج ..
ثالثاً : الاتهام شديد نعم ؛ ولكنه سيق بمنتهى اللطف وبكناية في منتهى العفاف ؛ فلم تتكلم الشاعرة عن الخيانة والغدر وغيرهما من صفات لا يستغني عن إيرادها من عانى معاناتها ..
رابعاً : { يا صديق الوجد } تدل على منتهى الرقي والحياد ؛ فلم تغفل الألقاب الرسمية حتى عمن يتهيأ للعقاب !
وياله من لقبٍ قاسي رغم مظهره الأنيق والمجامل !!!!
خامساً : بهذا اللقب يكون الستار قد أُسدل تماماً على العلاقة العاطفية التي كانت قائمة قبله !! وذلك بأنه قد تحول إلى مجرد صديق بشكل حاسم لا مجال فيه للطعن ولا الاستدراك !!!
سادساً : لم تنس الشاعرة وهي في خضم قراراتها أن تستشعر الوجد الذي سيصيب المتهم بالعقوبة المقررة ؛ ولم تستطع تركه دون أن تخفف عنه بهذه اللفتة الجميلة التي تشير فيها إلى أنها ستشاركه العقوبة رغم براءتها مما اتُهم به ؛؛
إلى هنا انتهى البيت الرائع ولكن من حسن حظنا فالأبيات التي تليه لا تقل روعة ولا جمالاً ..
(عتبي عليك بأنني
أنثى .. ! وتعلم
جرحَها
عين اليقينِ )
مرة أخرى تتكلم بدون تصريح بما لا يكون التصريح به إلا جارحاً ؛
لذلك تكتفي بإقامة الدليل عليه ؛ ونراه نحن وهو يلتفت يخفي وجهه خجلاً من سوء ما صنع !!!
وكلمة أنثى هنا ربما أتت لتزيد من سوء صنيعه ؛
وفيها إيماءات أخرى بارعة ؛
( لن ينطفيء لهب
تأجج من
أخاديد الظنون
من الجنونِ )
ربما سنختلف مع الشاعرة هنا ؛
واختلافنا معها هنا ينبع من كونها تبني كل ما سبق من اتهامات على ظنون رغم علمنا أن بعض الظن إثم ..
فهل اجتنبت كثيراً من الظن ليسلم لها قرارها ؟ هذا ما سيأتي ؛
لكننا أيضاً الآن ونحن نختلف معها لا يسعنا إلا تقديرها على صدقها ودقتها فيما تخبرنا به مع أنه يقلل من قيمة الاتهام ..
( عشتار .. في حبي وفي غضبي وفي كل جنوني )
نعم يا عشتار ..
أنتِ – ربما - تردين على اختلافنا السابق معك ِ ؛ فتقررين بأنه كما سمح لنفسه بأن يتمتع بحبكِ الأسطوري ؛ فلا ظلم في أن يكون الغضب والجنون عليه أسطورياً كذلك !!!
هذا ما يخصه في هذا البيت ؛
أما ما يخصنا نحن فهو أننا عرفنا قبل أن يأتي هذا البيت بأننا نقف أمام أسطورة شعرية ؛ وثروة هائلة ؛ تخاطبنا بأسلوب السهل المستحيل !!!
ورياح عاصفتي
التي سكنت
سراديب
سنيني
نعم .. فالاتهام رغم أنه بُني على ظنون فلم يكن وليد موقف ولا لحظة ؛ بل كان رياحاً للشك وراء رياح ؛ استحالت في نهاية المطاف إلى عاصفة مكبوتة ؛ لكن تخبرنا الشاعرة أنها وجدت لهذه العاصفة عملاً آخر نافعاً ؛ وهو :
( ستمزق الآلام
و الأحزان
عن روض
الشرايين ِ
ليمور زهر الياسمين
على روابي بهجتي
و ضفاف كوني …!)
يا الله !!!
ما أروعك يا عشتار
لكن هل حقاً ما تقولين ؟!
هل تستطيعين حقاً توظيف النار في إطفاء الحرائق !!!
والعواصف التي تمور في قلبك ستسلطينها على الآلام والأشجان التي تحاصرك فتتخلصي منهما جميعاً
ما أجمل هذا التفكير !!
وما أبدعه !!
وما أعظمه !!
هل لاحظ أحدٌ أن عشتار عندما استعملت كلمة { يمور } لم تسقطها على ما في قلبها ؛ بل أطلقتها على مرحلة بناء الآمال ؟!
ربما يا عشتار لأنه لم يعد لديكِ وقت للحديث عما مضي ؛ وربما لأنكِ تستجمعين كل ما في جعبتك من شجاعة وكبرياء للنطق بالقرار الأخير ..
القرار الغير قابل للاستئناف ولا للنقض :
( لا تعتذر ..
أقفلتُ دون وصولك
المحراب
يا صب المجون ِ …)
هنا يا عشتار .. وهنا فقط ؛ نجدك قد تخليت عن تحفظكِ الذي لازمك طوال القصيدة ؛ وذلك بلمز صديق الوجد بهذه الكلمة الشنيعة ؛
الحقيقة أننا لا نستطيع إلا أن نعذركِ في استعمالها ؛ فنحن على يقين بأنكِ اضطررتِ إليها اضطراراً ؛ لأننا جميعاً كنا نتهيأ لاستعطاف قلبك الرحيم ؛ وقبول اعتذاره ؛
لكن هذه الكلمة جعلتني أتردد .. حتى في مجرد الدفاع عنه ..
لقد خذَلنا هذا الرجل قبل أن يخذل نفسه ..
وأخيراً ..
لم يعدْ لديّ ما أستطيع قوله إلا أنني أدعو الجميع إلى قراءة القصيدة وتذوقها بدون تعليقات ؛
فكل ما قلت لا يعبر عن جماليات القصيدة كما تعبر هي عن جمالياتها ؛
ولعله لم يفسدها
!!!
محمود سليمان
أديب / شاعر و ناقد