فائز الحداد
النص :
أتعثر في خطوتي المتسابقة مع ذاتها
تسوقها الريح بين شقوق سماوات النزف
و براكين التمتمات الصاخبة
فانتشليني أيتها الريح النائحة من حيرة المنتظرين
و لتقذفني حكاياتك في تراتيل العبر
فيمتد يقيني نحو صورك المتواطئة مع ريبتي
معان ٍ صامتة تجترح الكلام
و أزيز يخترق المعارف القصية
،
،
ارتكبي أيتها الريح لواعج الهبوب
و انفذي إلى بواطن الغيب
كي تجتازي أقاليم العبث
ثم الق ِ لسائس النار بعضا من أقانيمك الساخرة
يحرث بها جمره المتقد
و اسقيه من نمير أسرارك
فيقترف غوايته
كثيرا ما أتهيب من الكتابة عن نص معين ، وأراجع نفسي متسائلا هل سأكتب عنه أم سيكتبني هو .. مؤرخا ذاته الشعرية في صداي الأخر كشاعر يكتب عن شاعر؟ أم ، هل نحن الآثنين سنكتب بعضنا ونكمل بعضنا في نص نريد له الشيوع والرواج ..؟
في آحايين كثيرة أزعم اعتقادا بأنني لن أكتب عن نصوص غيري ، وأبقى منظرا في تجربتي الشعرية في الرأي والرأي المقارن كما يفعل الشعراء ، ويظل الشعر حصرا هاجس وجهتي الباقية والدائمة ، غير أن هذا القرار يخذلني حين تتستفزني نصوص وتثيرني وتسرقني من ذاتي الشعرية الى ذواتها الإنسانية وتتمكن مني تواجدا وحضورا في الإعجاب والإستراق والكتابة ، وفي مقدمة هذه النصوص نصوص زميلتي الشاعرة القديرة فواغي القاسمي .
في نصها " سائس النار " تنبري الريح كثيمة محاورة في شخوص ثلاثة تتحاور .. فمن يخاطب من في الحقيقة الشعرية .. الريح تخاطب فواغي أم فواغي تخاطب الريح ومن هو المخاطب الثالث ..؟
بعيدا عن حمأة الشاعر في تتويج نفسه ريحا وفق هاجس الشعر في بوحه ، فهناك تداخل بين المعلن والخفي وبين المنادى والمنادي ، حين تلخص الريح أفعال هذا التخاطب . ..
أنني وبهاجس المتيقن أحس أن هناك صدى للخوف وظل ارتياب يتخفى وراء دعوة الإلتماس التي تحمل فواغي الى الريح .. هذا الإلتماس يقوم على التوجس من حيرة خانقة تدفعها الى حد التوسل والتضرع اليها للخلاص من ريبة الإننظار ..؟! .
أن صيغة الفعل الذي قادت به النص يشبه الى حد كبير أداء أفعال الرجاء ، بل هو رجاء حركي فعلي للربج كي تنتشلها من حيرة الإنتظار ..
أنتشليني أيتها الريح النائحة .. من حيرة المنتظرين
واقذفيني بحكاياتك في تراتيل العبر
ودعي يقيني يأوي لصدرك المتواطيء مع ريبتي
يعصر معان صامته تجترح الكلام
وأزيز يخترق المعارف القصية
،
،
قبل الدخول بالموضوع .. أنني أرى كما يرى الكثيرون أن الفارزة في أول السطر ليس لها معنى دلالي في اللعة ، فهل هي كذلك في الدلالة الشعرية هذا ما لاسنجيب عليه الآن .. والمهم هو استئناف فحوى النص الذي أجد مفتاح شفرته هي .. هذه الحيرة القاتلة ( حيرة المنتظرين ) الواردة في مستهل النص ، فهي مكون أسباب الثيمة المركزية وفتيل شرارة النص القائم على الرجاء في صيغة التوسل كي تنتشلها وتقذفها الى ( حكائيات العبر ) .. وعلى افتراض بلوغها اليقين .. ترجو له أن يكون بالغا لصدر الريح في توقها ، فدعيه يبوح بما خلفته من ( معان صمت تجنرح الكلام ) ..
لنلاحظ الدقة في مفردة ( تجترح ) ليأتي الإعلان دون تردد ( وأزيز يخترق المعارف القصية ) هذا التواتر لم يكتب الا بنضوج فكرة الرسم البياني الشعري المجترح للمعنى الجمالي بخطوطه المتناسقة ليظل الجمال خليجه الدائم فيما يروم ويستهدف..
ففي الجهة القصية
صخور تتسابق انهمارها على السواقي
وأصابع تلتف حول عقارب الثواني
تخرق الوقت وتكتب مزاميرها الصاخبة
على جدران أزمنة الغبار والتفاصيل الشاحبة
إن الإقصاء جاء معرفا في المقطعين الآنفين ومحددا أيضا ، ففي المقطع الأول أقترن بالمعارف المخترقة وفي المقطع الثاني ، حمل الجهة عنوانا له ، وبما يؤكد بالمعنى الشعري هذا الإقصاء وفي جهة حددتها الشاعرة بإطار وصفي وبتورية تضع الصخور ملمحا تعبيريا لعدم جدوى الصبر والحيرة المقلقة التي انبجس عنها انهمار الصخور في تسابق شلالات النشيج وعدم جدوى التشبث بالوقت الذي قد يفلت وينفلت من بين أصابعها ولا يخلف وراءه غير غبار أصداء الزمن .. ومثلما وصفته الشاعرة عبر ( مزاميرها الصاخبة والتفاصيل الشاحبة ) .
إذن ومن الطبيعي أن يكون رجع الصوت كفعل الفعل وانزياحه الإنعكاسي وكرجع العاقبة في الذعر والقهقرة ..
فالمراهنة على الإنتظار سقطت بفعل غير فاعل ، وإن وضعت لها فواغي اختيارا حسيا ذكيا في مفردة ,( الصخور ) التي تعبر عن قوة الصلابة وشكيمة الصبر لكنها في حقيقة الأمر مثل الذي يقف فوق جلمود صخر يخفي تحته أصابع ديناميت ستنفجر فجأة ... ولنا أن نتصور ما ستخلفه من إنهيارات وإنهمارات هائلة لذاتها وللذوات الأخرى .
في المقطع الذي يليه تغير فواغي صيغة المخاطب من المنادى ( أيتها الريح ) كما في المقطعين السالفين الى المعني بحقيقة الخطاب الشعري أي شخصها المستهدف ب ( أنت ) المقدرة نحويا وشعريا ..
شهدت الريح وأقرانها
بأن وصولك معقود بدروب مغلقة
لاتكسر اقفالها
بل تتفجر براكين نبضها
بنحريض عميهم ، حيث تهاوت هواجسك واشتهاءاتك
ترتكب لواعج الهبوب
وتنفذ الى مواطن الغيب
فتجتاز أقانيم العبث
أولا .. لنتسآءل هنا لماذا هذا التغيير في صيغة المخاطب .. ؟
هل هناك توحد ضمني يجمع بين مخاطبين .. أي أن المخاطب واحد بظلالين أرادت لهما فواغي أن يكونا هكذا .. ( أنت _ الريح ) .. ؟ ولضرورة فنية الشعر في إبتكار الجديد تتحايل الشاعرة على معنى القصد بقصد الإخفاء لتستثمر ذهنية القاريء في اجتراح آفاق شعرية جديدة تجعله حيالها في أقصى ذروة الإستعمال القرائي ، كي يقف عند هذه الممارسة ويقر تماما.. بأن لفواغي ما ليس لغيرها في أسرار مملكتها الشعرية ..؟
أن المناخ الشعري في كل طقوس هذه الشاعرة يفصح عن صخب حراري محتبس وينبيء عن اندلاعات حرائقية لاتعرف غير البراكين لغة والحمم ضوعا ، تلقيها علينا بإستعارات تتنوع بألوانها الساخنة ك ( الريح وأقرانها .. أبواب مغلقة .. براكين نبضها .. لواعج الهبوب .. بواطن الغيب .. أقانيم العبث ) وتبقي أفعالها صوب مخاطبها ممرات لها تستأنف بها الدخول والمكوث ، وقنوات تضمن لها الخروج والتخارج : ( شهدت ، لاتكسر ، تنفجر ، ترتكب ، تنفذ فتجتاز ) ..
لذلك يبقى التحايل قائما بمعنى التناص المؤول في احتمال المزاوجة لا المواءمة .. فمن هي مثلا اقران الريح .. ؟ ومن (وصوله معقود بدروب مغلقة ) في حقيقة البوح الشعري .. هو أم هي ؟
لذلك قد نبهت منذ أول دراسة لي عن فواغي القاسمي عن خطورة نصوصها من حيث الأهمية في البناء والترميز ( لاتكسر اقفالها .. بل تتفجر براكين نبضها )..
ولنلحظ استخداماتها الجديدة الباذخة الجمال ( بتحريض عميم حيث تهاوت هواجسك واشتهاءاتك ) .. ومغزى ( الإرتكاب ) حين ( ترتكب لواعج الحب ) وحين يتوحد فعل الحب مع فعل الشعر في هالة جمالية متماهية ، ومن خلال هذا الإرتكاب ينفذ الى ما ينفذ المعنى في ( بواطن الغيب ) ليعلو فعل الهبوب جامحا ب ( فتجتاز أقانيم العبث ) .. بأعتقادي هذه هي الذروة في النص وما تريد أن تبثه الشاعرة في بعض ما يخالجها لتتولى الريح شأن مستهدفها المقصود الذي آل زمانه الى التيه بدروب مغلقة ..!!
وعودة على بدء .. من هي الريح في وعي فواغي الشعري المتجاوز .. ؟
هل هو ظلها الآخر البعيد أم هو ظل مخاطبها القريب.. الذي يسكن بواطن أشيائها ..؟
على أية حال .. هي ريحها التي تمسك بأطرافها وتتحكم بنواحيها المتشابكة صوب ومع ( سائس النار ) فهي المعّرفة بعتيها (النؤوج ) ..
أيتها الريح النؤوج
الق ِ لسائس النار بعضا من أقانيمك الساخرة
يحرث بها جمره المتقد
واسقيه من بحر أسرارك
كي يقترف غوايته ..!
لاستدراك تورية البناء وحقيقة شخوص النص المتعددة تكون معادلة التخاطب النصي في تشاكل البوح هي ..
( الريح _أنا _ الحقيقة المفترضة )... ( سائس النار _ أنت _ الإفتراض الحقيقي ) لهذا تأتي سخرية الريح ساخطة ومتندرة لتمنح ( سائس النار ) بعض مالها ليعي مداركها الخفية من خلل ( جمرة المتقد ) وليعرف ويدرك .. أنها الريح التي لا ينازعها أحد في اقتراف الغواية ..
لقد قدمت لنا الشاعرة المبدعة فواغي القاسمي نموذجا نصيا جميلا من سجل أعمالها الشعرية في قصيدة النثر ، رغم أن لها أهتمامها الأول في كتابة القصيدة العمودية وما يلتحق بها من شعر حر أو تفعيلة كما شاع عليه أصطلاحا .. لكنني أجد جماليات نصوصها لها مايميزها في البناء والمعنى والجمال ..