العاشق والمعشوق في ألم المسيح ردائي
د.مقـداد رحـيم
يتجلى المعشوق مخلوقاً أسطورياً في قصائد الغزل العربية، يُحاط بوشاح من القدسية، ولا يُدرَك إلا آسراً مَنيعاً، وقادراً مُتحكِّماً، وهو مع ذلك مرغوبٌ مطلوب، مقبولُ الفتنة، مسوَّغُ العبث بالأفئدة، واللهو بالراحات والأرواح، مُسامَحٌ على ما يقترفه من هنات وهفوات، يستمد قدسيته مما للعشق من قدسية ... العشق الذي بلغ الشعر فيه مبلغه القصيًّ حتى سُمح بروايته في دور العبادة، وحتى صار للموت سبباً، فصدَقَ رجلٌ من عذرة حين قال: "نحن قوم مَن بلغ منا العشقَ مات"!.
ومن مفاخر هذا الاتجاه من الشعر أن القول فيه من لدن المرأة لم يكن مستنكراً منذ طفولة الشعر العربي، وقد بلغت القرنين من الزمان قبل الإسلام على رأي الجاحظ، وأبعد من ذلك على رأيي أنا، ومَن يقرأ الكتب التي وضعها المؤلفون المشارقة القدماء في أشعار النساء، فضلاً عن كتب الأمالي وأخبار الأدب والأدباء، أو كتب التراجم الأندلسية والمغاربية فإنه سيتبين ذلك، بعد أنْ يبلغ منه العجب مبلغاً.
ولماذا العجب؟
ذلك لأن هذا الغزل النسوي، وأقصد شعر العشق السامي، لم يقتصر على فقيرة دون أميرة، ولا على متفقهةٍ دون فقيهة، ولا على الرعاع دون العِلية، ولأنه صار فيما بعدُ ذكورياً أسوةً بالمجتمع، فحُجبت المرأة عن القول فيه، أو حُجِبَ عَـنَّـا ما قالـتْهُ، فامتنعت الكتب عن روايته، بعدما انحسر رواته، وقلَّ مَعينُهُ، وزاد ظُلم الرجل للمرأة، حتى عصفت بالشرق عصور متأخرة سُمِّيتْ مُظلمة، فاشتدتْ معها ظُلمة شعر الغزل النسوي وشهدتْ انحساره جُملةً، إلا في القليل النادر.
وإذا كان مما يميز الشعر العربي الحديث ويَسِمُهُ بالتطور فذاك هو هذا النوع من الشعر، فصار له شواعر معروفات مشهورات، ودواوين تتناثر هنا وهناك في مكتبات أغلب أقطار العالم العربي الإسلامي، ثم صارت الشبكة العنكبوتية عنكبوتاً له. ولا أبعُدُ قبل أنْ أشير إلى شاعرة مائزة من شواعر العصر هي الشاعرة الإماراتية فواغي القاسمي وبين يديَّ ديوانها (ألم المسيح ردائي) الذي صدرت طبعته الثانية هذا العام (2007).
تبدو فواغي القاسمي في قصائد هذا الديوان عاشقة من درجة رفيعة، إذْ تحتفي بالعشق أيما احتفاء، وتُدني إليه مخابئ الروح، وتسعفه بنبض القلب، وتُديم الحنوَّ له، والسهر عليه، وتخلصه لمعشوقيها... هل قلتُ معشوقيها؟.. نعم، قد فعلتُ، فهي تختزل العشق في ذاتها ليتسرب منها في اتجاهات متعددة بتعدد المعشوقين. وأول المعشوقين الله جلَّ جلاله، وهي تقدِّمه في ديوانها على سواه في المنـزلة فتجعله الأول في الترتيب، فهو الواهب، والعشق من بعض هباته، ومكامن قدراته، ولذلك توجَّب إدراكه من خلال الذات، ثم التوحد في ذاته:
وأبصرتُ فيك إلهي جلالاً........ ومن ملكوتك أبصرتُ نفسي
تجلتْ لعيني حقيقة كوني......... وأنك عينُ يقيني وحَدْسي
وأنك نور الورى السرمدي...... تنـزه عن كل أمر بلبس
فوحدتك الله رباً عظيماً......... تمجد في القدس عن كل قدس
وأيقنتُ أنك في الكون كلّ...... فذاب بذاتك روحي وحسّي
...
ولاشك في أن الشاعرة هنا تغترف من معاني من سبقها من المتصوفة الذين جعلوا لمفردات العشق معانيَ خاصةً بهم وحدهم، وبالحب الإلهي وحده، لتصير فيما بعدُ مصطلحاتٍ وُضعتْ فيها الكتب، وأصبحتْ وما تدلُّ عليه عِلماً من العلوم، كما وُضعتْ في غزلهم الصوفي الدواوين الخاصة.
وهناك قصائد أخرى في هذا المعشوق في أماكن متفرقة من الديوان، مثل "شهيد الحب".
وثاني المعشوقين في صفحة قلب الشاعرة الوطن، فهو الملهم والراعي للعشق، وهو مكانه وزمانه، فحقَّ الإخلاصُ له، والتضحية بالنفيس من أجله:
تملكتَ مني جوارح نفسي.... وروحي، وقلبي عليك انختمْ
وألهمتني الحب حتى غدوتُ..... أرنم باسمك عذب النغمْ
سأرخص دون ذراك الدماء..... وأجتاز في الهول عب الخضمْ
...
غير أن الشاعرة تذهب في عشقها لوطنها بعيداً في هذه القصيدة، فتتراخى غنائيتها الأنثوية العذبة ليطغى طابع التحدي والانتقام من أعدائه:
إذا ما دنتْ من حماك الخطوبُ.... ركبتُ الوغى وشحذتُ الهمم
لأسقي عداك زؤام الحتوف..... ونار الجحيم كسيل الحمم
فأنت الإمارات رمز الصمود..... تجاوزت في العز أعلى القمم
سأسحق فوق ثراك الأعادي...... وأحمي حماك كطود أشمّ
....
وهناك قصائد أخر كذلك لهذا المعشوق في أماكن أخرى متفرقة من الديوان مثل "جف اليراع"، و"طنب الجريحة".
وتتجلى إنسانية الشاعرة وما تنطوي عليه نفسها الوقور من العشق السامي الذي لا تشوبه شوائب نفوس الآخرين من البشر، في قصيدتها "ألم المسيح ردائي" التي جعلت عنوانها عنواناً للديوان، حيث التسامح.. هذا المعشوق الذي تستشعر من خلاله الحكمة في ذات الله وكينونته، ثم تصرِّح بحكمتها الأثيرة:
أبصرتُ من نور اليقين حقيقتي.... ووجدتُ في ربي عظيم فنائي
أسلمتُ أمري للذي هو واحد..... وقد ارتضيتُ بقسمتي وقضائي
....
وعلى الجانب الآخر يقف المعشوق في شخصه الآدمي، فيأخذ مساحته الواسعة من شعر فواغي العاشقة دائماً، وتحاوره على مدى "يا عذابي من غرامي"، و"شوق ولهيب"، و"غرام وشجون"، و"ما على الدهر ملام"، و"أرق الزمان لصبوتي"، و"محاكاة"، و"سلام سلام"، و"كم ليل العاشق ممتد!"، و"نجم العشاق.. حنانيك بمهجتي"، و"أعد لي قلبي يا سارقه"، و"عهود العرام"، و"دع انعكاسك في ذاتي"، و"لا تسلني من أكون"، و"خلب الغرام جنانا"، و"زائري في ليلة صيف"، على الرغم من مراوغة بعض هذه القصائد في الإفصاح عن المعشوق على الحقيقة، ولها الحق في ذلك، وأقول بعض القصائد لا جميعها لأن محاورة الإنسان معشوقاً في البعض الآخر منها لا تشتبه بذات الله تعالى شأنه، كما تفترضه قواعد الغزل الصوفي، وما اعتاد المتصوفة على استخدامه من المصطلحات وصفات العاشق والمعشوق، أو كما تدل عليه صفات المُخاطَب.
وللشاعرة معشوقون آخرون يُلهبون عواطفها وغنائيتها المعهودة وهم يحومون حولها في إطار العائلة.
إنَّ الشاعرة فواغي القاسمي تتوحد والعشق بوصفه ملمحاً أصيلاً لا ينبغي للإنسان أن يتخلى عنه، أو أن يكون مُفرَّغاً منه، ووجهاً من وجوه الله، لا يُرى إلا من خلاله، وعندما نقول "العِشق" فلأن الشاعرة لا تُهادنُ في مشاعرها، ولا تُرسلها جزافاً، ولا تعبر عنها على سبيل الاعتياد أو المجاملة أو اللامبالاة، بل هي حادة المشاعر، مخلصة الجَنان، لها في العذريين أسوة وقدوة، ولذلك فمشاعرها تتغلغل في العشق، وهو عندها قيمة ترتقي إلى مستوى التقديس والتبجيل، ولهذا لا نجدها معشوقة في شعرها، بل هي العاشقة دائماً، وعلى هذا دارت معانيها، وإليه جَرَتْ مقاصدُها، فأسبغتْ بذلك على قصائدها طابعاً إنسانياً، متجاوزة فيه الأنا والذات.
الحس القومي:
وإذا أطلنا النظر قليلاً في تلك المقاصد فإننا نجد فواغي على قدر كبير من الحس القومي، وعلى قدر كبير من الشعور بالمسؤولية إزاء ما يجري في الوطن العربي، فتأخذ على عاتقها تعرية الواقع، واستنطاق الأحداث، لتنطلق منها ناقدةً متحمسة ثائرة، ويتجلى ذلك في مطولتها "قمم الضجيج"، فاضحةًً اتكال الأمة على ضجيج القول دون الفعل، فضلاً عن دوام الفُرقة والتحارب، على أنها كانت تُـعَدُّ في العصور الماضية الدرة بين الأمم:
خيـباتنا عبثاً نحاول
أن نعدَّ حدوثها
منا.. وفينا.. أم علينا
لا يهم هنا الجوابْ
...
ونلفق الأعذار
نسقطها على الأقدار..
نبرع في التآمر والخيانة..
في الملامة والسبابْ
....
ونظل نبكي فوق أطلال
العصور الغابرات
ونشتكي هول المصابْ
...
هل ذاك شرع إلهنا
في ديننا..؟
في منهج الدنيا القويم
وما تنص عليه آيات الكتابْ؟
...
أنْ يخذل الإخوان إخواناً لهم
في الدين والأعراق
حين تلح حاجات التكاتف
في الخرابْ
....
تباً لها من أمةٍ
كانت بحق درة بين الأمم
فإذا بها بهوانها وخنوعها..
تغدو الفريسة
بين أنياب الكلابْ!
......
وهي تحاول على مدار هذه القصيدة أنْ تكشف، عن عيوب هذه الأمة، والأسباب التي أورثتها التخلف والتراجع بين الأمم، في كثير من الجرأة.
تجربة الإيقاع:
ليس من العسير اكتشاف قدرة الشاعرة فواغي القاسمي على البناء الشعري الأصيل للقصيدة العربية، وتكوينها الثقافي الضارب في أعماق التراث العربي. وقد حافظت على بناء قصائدها على أوزان الشعر العربي فتوزعت على الرمل كامله ومجزوئه والكامل باشكاله المتعددة، والمتقارب والبسيط والمتدارك والوافر، وبذلك استطاعت أن تنوّع في إيقاعات قصائدها وتبعدها عن الرتابة والنمطية، غير أنها مولعة بالكامل والمتقارب والرمل، لانسجام نفسها مع إيقاعاتها غالباً.
وقد اتخذتْ من القصيدة المقفاة ذات الشطرين أساساً لهذا البناء، فجاءت موسيقى قصائدها متساوقة، متوقَّعة الجرْس والنغمات، تحكمها القافية الواحدة، ثم جاءت هذه القافية الواحدة على أشكال مختلفة: ساكنة أو متحركة أو ممدودة، وقد شَذَّتْ عن هذه قاعدة هذا الإيقاع رباعيتها الميمية "سلام وسلام"، وقصيدتها المقطعية الحرة "قمم الضجيج"، ولذلك أثره كذلك في تنويع الإيقاع ودفع الرتابة والملل عن ذائقة القارئ فضلاً عن سلوكها الذهني في التأتي للقصيدة.
إن فواغي القاسمي في اعتنائها بموسيقى القصيدة العربية وإيقاعها تمسح الغبار عن القصيدة العربية وتحاول أن تُعيد إليها نضارتها وبهجتها وأصالتها، وتنظمُّ إلى رعيل من الشواعر والشعراء الذين يحثون الخطى في هذا السبيل.
اللغة والأسلوب:
تمتلك فواغي القاسمي لغة شفافة طـيِّعة خفيفة الظل على ذهن القارئ، ويبد ولي أنها من الشعراء الذين لا ينحتون الجملة الشعرية نحتاً فيعتاص عليهم التركيب والتأليف، بل تدع ذلك لشاعريتها وخبراتها اللغوية وتلقائيتها الذهنية، على الرغم من أنَّ للقصيدة المقفاة ضروراتها التي توقع بالشاعر غير المحنك أحياناً وتخل بانسياب معانيه وسلاسة ألفاظه، ولاسيما في كلمة القافية.
أما أسلوبها فلا يجد للغرابة وتعقيد التراكيب أو الإسفاف مجالاً يُذكَر، فهو سهل، واضح، بسيط، يُشعر قارئه بقربه من الفهم والإدراك دون معاناة أو كدّ ذهني، ولذلك فإن قصائدها سهلة الحفظ، طـيِّعة على الترنم والإنشاد، بل إنَّ القارئ لا يسعه الشعور بالملل وهو يقرأ قصائدها الواحدة تلو الأخرى، وهذه من أهم الملامح الحسنة للكتابة لدى الشاعرة فواغي، كما هو ملمح حسن لدى أي شاعر أو شاعرة.
....
إن "ألم المسيح ردائي"، كما يشي عنوانه، هو وعاءُ وجدان شاعرة ٍ تلفعتْ بالأسى، وحملتْ على جنبات قلبها وفي أعماق روحها هموماً هي أبعد من الذات الشاعرة الخاصة، وأعمق من الهموم اليومية العادية، لا كما يشي عنوان هذا المقال!.
ـــــــــــــــــــــــــ
* نشر المقال في مجلة عمّان الثقافية- العدد 151- كانون الثاني 2008.
الدكتور مقداد رحيم بحثٌ يسمو في ملكوته ومشاعرٌ نبيلة تُحيطهُ منذ أن وجد الإنسان شاعرا...فالعشق والمعشوق ..هذه الصوفية المتجلية في سراديب الحياة الأولى حتى ماشاء من له القدرة والحكمة والبقاء أزلاً وسرمدا...هي في الوقت نفسه ألق لتبقى الحياة تستمر لأن الحب هو الدرب الذي يلج إلى فراديس العشق ولأنَّ لاذات بدون موضوع كما لاموضوع بدون ذات هكذا يتجلى الربط بين العشق كحالة وبين المعشوق كاستحالة إلاَّ أن يكون.وهنا تتجلّى الروح في ممالك النفس حيث التناقض بين الإستحواذ على الموضوع وبين أن يظل في قلقٍ مستمر وجوديٌّ كسارتر الذي أقرأُ فيه متجازاً صوفية الرهبنة المسيحية وصوفية البوذيين وابعة العدوية والحلاج وغيرهم.
موضوع في غاية الروعة ولكن قداسة الربط بين هذا العشق والمعشوق يؤدي بالضرورة إلى منابع الإريج الممزوج بحالة تسمو عن ماهو كائن إلى عوالم قد لانراها.لكننا نؤمن بها وهي موجودة...وحبذا لو رجعت إلى دروب وفي صفحتي لقرأت لي قصيدة بعنوان(رسالة إلى الحلاّج لمْ تُقرأْ بعدْ)
أقولُ فيها: ممالكُ صمتكِ اقفرتْ نواديها وأزهرَ غيثُها سرّاً بما فيها
نفوسٌ تتلو في الليل معاصيها وترتاحُ إذا فُرجتْ مآسيها
أحنُّ في رباك العشقُ من زمنٍ وأبقى للهوى عهداً أُناجيها
......
أنا في الكون والكونُ بيّ أبتدأْ إذا غبتُ فمنْ يُعشبْ سواقيها؟
تصوفتُ وصلصال يُنازعني وأُبدي العشق في جُلِّ معانيها
سقتني العُشقَ من كأس ٍ مدلهةٍ ورحتُ ذلكَ الحلاج أرويها
إلى آخر القصيدة.فتحيتي ومودتي لك
اسحق قومي
شاعر وأديب سوري مقيم في ألمانيا