للشاعرة فواغي القاسمي
عمران عز الدين
رغم أنني لا أحبذ قضية تقسيم وتنسيب الأجناس الأدبية إلى أدب ذكوري وآخر أنوثي لما في هذه القضية من تعقيد ممل وتسطيح مقيت لا يصب في مصلحة الأدب بشكل عام كحامل وجامع لذات الرسالة التي ينشدها الطرفان, إذ كم من الأديبات كتبن عن عالم الرجال ببلاغة وحكمة فاقتْ الرجل نفسه والعكس صحيح.
أجدني مرغماً على القول:
أفرز الأدب النسائي الحديث أسماء شاعرات كانت لهن بصمة مهمة وواضحة في المشهد الشعري الراهن من خلال إجادتهن مختلف الفنون الشعرية كالقصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والشعر الحر.. وقد تجلتْ تلك البصمة في إغناء وإثراء الساحة الأدبية بنتاجاتهن الناضجة والتي كان لها دور فاعل وأساس في معرفة القارئ التائه والباحث عن المعرفة والجمال دوماً بأدوات الكتابة الشعرية المعاصرة من خلال عقد ضمني واع ومبرم بين الشاعرات والنص المكتوب وذلك بطرح أفكار جادة ومعالجتها وبتكثيف الصورة الشعرية وضغط المفردة إلى حدودها القصوى والاهتمام بموسيقى الشعر.. ومن الشاعرات اللواتي كانت لهن مثل هذه الإسهامات الجادة والمسؤولة في المشهد الشعري الحديث على سبيل المثال وليس الحصر: نازك الملائكة وسعاد الصباح وعنايت جابر ومرام المصري وظبية خميس وفوزية سندي وجويس منصور ولينا الطليبي.
ضمن هذا الإطار والنسق الحداثوي الهام صدر للشاعرة " فواغي القاسمي " وهي شاعرة تنتمي إلى الجيل الشعري الجديد وتكتب القصيدة العمودية والتفعيلة والشعر الحر ولها مجموعات مطبوعة في كل ذلك، مولود شعري جديد تحت عنوان " موائد الحنين" وهي المجموعة الخامسة للشاعرة بعد: ألم المسيح ردائي وهو ديوان شعري / ملحمة عين اليقين مسرحية شعرية/ الأخطبوط مسرحية شعرية ً/ أي ظل يتبعني مختارات شعرية.
تقع مجموعتها " موائد الحنين " في " 216" صفحة وهي من إصدارات مؤسسة شمس للنشر والإعلام في القاهرة. تتضمن ثلاثين قصيدة هي على التوالي: رحلة صيد ٍ بائسة / املأني دفئا في صقيع عدمك / رقاص الساعة / حدثني وجع النهر / متى يتوقف ناعور الضياع ؟!/ ساحرة / قال : استأنّي / ليلها الموبوء بالحيرة / ذات الوشاح الليلي / كيف لي أن أجفف الزوابع ..؟! / ماذا لو..؟ / حزنك ذكرايَ و ذاكرتي / ربي ... مزقني إن شئت على بابك / إنانا / وهم الموت الجميل / دموع السماء / توأمان أنا و الألم / ضفائر الوقت الحزون / غيبوبة الكشف / موائد النار الحرون / و أسكرتهما نشوة الغواية / شوق الفصول / جلجامش / شهوة الجنائز / سعيد مجيد عامكم الجديد/ يانع زهر العشق / زمردة / فوضى أقانيم الرياح / ضجيج قيامة و حساب / على قارعة الذكرى.
بداية سننطلق من شرح مبسط للعنوان كعتبة أولى للدخول إلى المجموعة التي أرى أنها تمثل نموذج هام للكتابة النسوية بشكل عام وقصيدة النثر بشكل خاص، ومن ثم سنتناول المجموعة تحليلاً وتأويلاً ومراماً.
ـ العنوان "موائد الحنين"
فالعنوان يتألف من كلمتين فقط وهما:
موائد:
جمع للمائدة ويعلم الجميع أن المائدة تحفل بالكثير من أنواع الأطعمة والفواكه والحلويات مصفوفة في أكواب وصحون عادية وملونة ربما عند البعض.. البعض مائدته عامرة تحفل بكل ما ذكر أعلاه .. وفقيرة عند البعض الآخر.! كما أن هناك سورة المائدة في القرآن الكريم.
الحنين:
كلمة واحدة ومصطلح جامع لعواطف ومشاعر وأحاسيس لا تعد ولا تحصى، فالشوق والتوق واللهفة والرغبة والهيام وغيرها من المفردات الكثيرة جداً تندرج تحت مسمى واحد أو كلمة واحدة هي الحنين المشتقة من الحنان.
الشاعرة هنا تضع الحنين بكل مراميه وأبعاده ودلالاته في أكواب وصحون ستقدم بعد أن تنتهي من سكبها / كتابتها على مائدة هي مائدة القراء. سيقرأ قارئ عن حنين إلى الديار وسيرتشف آخر حنيناً يسكره ويطربه بعد أن نأى عنه زمناً، وسيكوى آخر بحنين من نوع آخر وهو حنينه إلى حبيبته التي هجرته إلى آخر.. ثمة حنين للطبيعة المسافرة في رحلة اغتصاب وحنين مؤجل وحنين مقسط وحنين من دافع عن الأرض واستشهد في سبيلها ليدفن في بقعة أخرى من وطن أنصرف القائمون عليه وأولي الأمر إلى كل شيء يخدم أناهم المتورمة ومصلحتهم الذاتية على حساب مصلحة الآخرين. إذن للحنين أنواع، هذا ما تقوله الشاعرة أو ما يستشف من العنوان وهذه الأنواع تتبع لأمزجة وحالات ومشاعر كل من سيمر ههنا.. هذه التوليفة الشعرية بتأطير وتكريس أنواع / جدلية الحنين تبعاً لحنين ينتاب كل واحد منا هي مهمة صعبة وملغومة.. صعبة الإلمام بها وخطرة، ومكمن الخطورة هنا، هل سيتوفق من يتطرق إلى معالجة كل حالة من هذه الحالات..؟ هل من نصب نفسه محللاً لما ينتاب الآخرين من
هموم وتداعيات وعواطف ومشاعر وأحاسيس قد مرّ بكل ذلك كي يكتب عنه شعراً..؟ هل اكتوى بتلك الحالات وعاشها أم قرأ وسمع عنها كي يقدم لنا في وصفة جاهزة علاجاً لأنواع الحنين..؟ هل هذا هو ما قصدته الشاعرة أم ماذا..؟ هل تسخر من واقع مزيف فارغ معلب ومدجن يبس في فؤاده كل معاني الحب والخير والحنين أم تحرض قارئها على الثورة في وجه من اغتصب كل مشاعر الدفء والحنين بحيث أصبحنا كالدمى نجر أذيال الخيبة دون أن يعني ذلك شيئاً لنا .. ودون أن نتوقف للحظة نتأمل فيها شاخصين لا منذهلين برودة وصقيع العواطف وتخشبها وتحجرها.
" في غربة الارتحال / بين مفترقات الوهم / يشدنا الحنين / إلى حارات الطهارة و الصدق/ إلى منبع الفرح / واحتواء الألم."
حفلتْ المجموعة بقصائد نثرية مموسقة من حيث متانة اللغة وجمال التصوير والدلالات الجديدة البديعة والخيال الخصب وتحمل رؤىً وصوراً ومعانيَ مؤثرة وقوية وتلامس أعماق القارئ المتعطش للجمال وهذه لعيني علاقة طردية مع قدرة الكاتب إذ كلما كان الكاتب مبدعاً كانت صوره رائعة وجميلة والعكس صحيح.. تتطرق إلى الأشياء المهملة والذابلة في حياتنا وتبحث عن الشعر داخل التجربة الداخلية الذاتية في فضاء الذات الأنثوية بأنامل احترافية مجدولة ومغموسة بماء الشعر.. تتصدى للوجع الإنساني وتصرف عليه جل اهتمامها وفكرها.. وتتطرق لموضوعات سامية نبيلة وهموم العصر برؤية شعرية شفيقة دون أن تتزحزح عن الفكرة التي هي بصدد الكتابة عنها.. متسلحة بأدوات الشعر وملمة بالقضايا والنظريات والمدارس الشعرية القديمة والحديثة وذلك بلغة بكر عذراء واقتصاد وتقتير لغوي، فما يهمها هو أن تنمو القصيدة تصاعدياً حتى تصل إلى الذروة وغالباً ما تكون الخاتمة كارثية في وقوعها على الذات الأنثوية.
" حدثني وجع النهر / عن انثيال وجده / على وجنة الانعتاق / و عذرية اللغة."
البساطة والحيوية في كتابة الشعر وفي كتابة الكلمة الدالة والمعبرة عن لواعج الذات الإنسانية هي سمة تميزت بها الشاعرة في مجموعتها التي دعمتها بمجموعة من الترددات الصوتية متمثلة بالتكرار بغية تعميق الدلالة التجسيدية للألم والفرح والنجوى والسلوى, حيث يتحول من مدرك معنوي باطني إلى مدرك حسي ظاهري، وهي كما أعتقد نقطة قوة تفردت بها مبتعدة عن الزخرفة العقيمة التي تجعل من الشعر ورود اصطناعية في بيوت بلاستيكية سرعان ما تذبل.
فالوحدة " وحيدا في ليل حيرته الذي لا ينتهي / حين العين يسهدها الانتظار / و القلب المتوثب للقاء ٍ /لا يجيء"
والماء والمطر والأرض والروح " رعشة السماء / و احتضان الأرض / عمر اخضرار ٍ مجبول بكليهما / و المطر المرسوم بدقة / على صحراء القلب / يتدفق ألوانا / يتشكل / سريان الروح / لهجير العطش."
والدفء " إملئني أملا في قلبك / دفئا في صقيع عدمك."
والمنفى والحنين والطبيعة والسخط والتذمر والتمرد والكرم والأمل والشجاعة والخنوع والذل والنصر والهزيمة والطيور واللؤم واليأس هي باختصار مفردات موضوعات تؤرقها وتؤرشفها وتسعى للكتابة عنها وتعريتها وفضحها سواء من تجربتها الذاتية أو من الظلم والواقع المتردي الذي عاصرته. وذلك بلغة مشذبة وقفلات فنية عاقلة وصور تكثيفية ترميزية مدهشة، إذ غالباً ما تنهي قصيدتها بعبرة أو عظة تستوقف القارئ الذي لا يملك إلا أن يعيد من جديد قراءة تلك القصيدة .
ولأن أكثر الفنون صارتْ تميل إلى الإيجاز في لغاتها التعبيرية استجابة لروح العصر القائم على السرعة والاقتصاد والتكثيف، فأن للقصيدة القصيرة جداً أو القصيدة الومضة حضور جميل وموظف في هذه المجموعة، إذ نرى الشاعرة لاهثة في صياغة مقاطع نثرية تتوافر على صور مكثفة كأننا أمام لوحة رسام يتقن عمله، ففي قصيدة "ذات الوشاح الليلي" تقول: صورة هلامية /على ذات الوشاح الليلي / يتمدد اللون على نوافذ عينيها / ليتلون قلبها / و شيء ما خارجه يشي بها / وحدهما في تلك الغرفة / صورتان و نبض / كيف لتلك الأبواب أن تتكسر / يمتزج اللون دون صوت / يرسمها في اللوحة / خارج الغرفة.
ـ السمات العامة في شعر كاتبة " موائد الحنين" :
ـ تكثيف وضغط المفردة:
تحرص الشاعرة في شعرها على ضغط وتكثيف مفردتها إلى حدودها القصوى لخدمة المنحى أو السياق العام الذي تعمل عليه.. وهي بذلك تتخلص من الشوائب والترهلات غير اللازمة التي تعيق المفردة عن النطق الشعري السليم والتوظيف المتقن.. فهي تحلق بمفرداتها المشذبة في سماء الشعر بلغة واضحة بعيدة عن الإبهام إذ نراها غير متكلفة ومبتعدة تماماً عن الزركشة اللفظية والزخرفة الفاقعة.
ففي قصيدتها( زمردة ) تكتب:
حزم حياته في حقيبة سفره / استقل أول غيمة عابرة / مشدود بأحزمة الألم / إلى أرض لم تشرق شمسها / مذ غادرتها النجوم / والتحف القمر دثار الغياب.
ـ الاهتمام بالصورة الشعرية:
يقف قارئ موائد الحنين أمام كم كبير من صور مبتكرة وخام ولم تتبادر إلى ذهنه إلا ما ندر، فالومضة حاضرة بين مقطع شعري وآخر والحكاية المؤنسنة أو أنسنة الحكاية حاضرة.. صور غرائبية تهتم الشاعرة فيها بدفقة الشعر والشعور مكرسة لها ألوان شجرة الشعر اليانعة دوماً.. ولا تتأتى كتابة هذه الصور المتفاوتة أحياناً بين الجدة والجمال والعادي المألوف بهذا الشكل غير المألوف لأي كان..
لأنها تستلزم أولاً:
ـ معرفة مسبقة بضوابط كتابة الشعر وإلماماً واضحاً بالنظريات والمدارس الشعرية.
وثانياً:
ـ تشرب الشعر وكتابته من منطلق الشعور والإحساس بجدوى كتابته النابعة من هم يسكن ذاتها الشعرية القلقة والمسكونة بفك شيفرات الجمال وتعرية الواقع والمسكوت عنه بلغة مسبوكة ومصبوبة في قالب لغوي شعري أخاذ.
/ تعبئ قواريرك من حانات البنفسج وغدران الياسمين / تسكبها على تعاشيب المواعيد و دفاتر الذكريات / غناؤك المعجون بتمتمات الناي و سقسقات العنادل / يقاسم الأملود المئيد دلاله و النسيم رقة الهبوب / و تغرسين شعلة في ذيول السحابات الهاربة../ وأكتب بلادة التقويم الشاحب على سبائك المـدر./
ـ عمق المعاني، وسهولة الألفاظ:
فالمعاني ترتبط بالإنسان وبالحياة وبالشعور والألفاظ سهلة لينة فيها قدرة فائقة على حمل المعاني المختلفة بحيث تأتي مشعة من النوع السهل الممتنع.
أرحلُ و شواطئي مثقوبة ٌ بالذكرى../ لجندول حياتي المتأرجح على أمواج الغربة / أنفاسي تحرق كل حقول القمح / بنزيف غرسِها في تجاعيد الروح المنهكة / ارتطام جليد بصخرة الحقيقة / سغبُ الروح للحظة اللقاء / تسبر غوائل الليل الكليل / في حلكة الغيب تتماوج تقاطعات الشعور على أفاريز التيه / أظلته برمشيها المنسدلين كأهداب نخيل / تمشطين شيب الأفول بأصابع الحرير.
ـ استحضار عوالم فلسفية :
تعكف الشاعرة على دراسة قضايا فلسفية وأسطورية من خلال استحضار أرواح وقصص أسطورية في أغلب الأحيان كما في " إنانا " و " جلجامش" إذ أنها تكرس اللغة أداة طيعة وموفقة لتمرير وتسخير فكرتها وتفردها.
أنظر مثلاً إلى ما تقوله عن الآخر " الرجل" شريك الأنثى في الهم والوجع الإنساني :
لحظة تشبهني / حين بعضك كلي / و كلك بعضي لأراك / أراني / و يبقى الشوق محتدما بكياني / هذا و أنت مني / فكيف حين بعادك عني. !!
ـ السخرية والتناص والنجوى والتحدي:
وقد تبدتْ السخرية بمرارتها غير المستساغة واضحة في قصيدتها " سعيد مجيد عامكم الجديد " إذ أنها تسرد بضمير المتكلم وبحنكة متمرسة حكاية أرض سليبة أنصرف قسراً أهلوها عنها أو هكذا قُدِرَ لهم، في إدانة هامة وصارخة لواقع مشرد وأعوج حتى العظم ولا يحرك ساكناً. إذ أنها سئمتْ كما تقول من هذه الرتابة والمشاهد اليومية المرعبة وتحن لدفتر الذكريات في إشارة إلى الماضي الزاخر بالأمجاد والبطولات وتتمنى أن تفقد الذاكرة كي ترتاح ولو قليلاً من عبء مشاهد وصور اليومي الجبان بعيداً عن العدو / الجارة المتربصة ذات العينين المريبتين.
ولتختم قصيدتها بالعنوان نفسه في إشارة سافرة إلى الخنوع والضعف وقحط وجدب الفحولة والرجولة.
وتتناص بعض قصائد المجموعة مع التاريخي واليومي والاجتماعي والسياسي. وكذلك الأسطوري ببعديه الجمالي والخرافي كما في قصائد " ساحرة.. جلجامش.. إنانا."
وفي قصيدة " ربي مزقني إن شئت على بابك." مناجاة حارة وصادقة:
يا رب الكون و ربي. / مزقني إن شئت على بابك../ قدرني قربانا./ و أشعلني نيرانا / في محراب رجائك / لكن رحمتك إلهي ...!
ولا تتوقف الشاعرة في " متى يتوقف ناعور الضياع..؟ " الضياع الذي يطحن الفرح عند شرح مواويل الفراق ونهر العبث الراكد والأشباح التي تعفر القلوب بغبار الزمن وصقيع الذكريات المؤلمة والرؤوس المثقلة بنعاس التيه ويُتم الأطفال على قارعة الشفقة والقمر الذي غادره ضياؤه بل تقفز الشاعرة لتفاجئنا بدعوة ثورية تتجلى فيها قمة مراحل التحدي لنصر زائف حققه عدو مخاتل مغرور في قصيدة " رقاص الساعة" ـ وكم تمنيتُ لو أن الشاعرة وضعَتْ هذه القصيدة بعد قصيدة " متى يتوقف ناعور الضياع..؟" لا قبلها ـ
ثم تراجعت ../ فأنت لست سوى رقاص / وأنا أكبر من أن يهزمني رقاص ! / سيتوقف الرقاص ..حتما. / ولكن الطبول ستظل تقرع.
ختاماً:
قراءة سريعة كهذه لن تغني بالتأكيد عن قراءة مجموعة مكثفة وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات بلغة زاخرة بعوالم من الصور واللامتناهيات والرموز والإشارات وذلك من خلال تقنيات مشغولة وعناصر منتقاة وكثير من المحفزات المتواشجة لتقديم شعر مراوغ عبر إيقاع شفيف.
................................................
عمران عزالدين أحمد
سوريا / الحسكة