الوجه الآخر لهونج كونج
لهونج كونج وجه آخر قبيح غير تلك الصورة الجذابة التي تعرف بها
تلك الحواري و الأزقة الشعبية التي تتدلى من واجهاتها الكلاب و القطط المسلوخة
قبل أعوام بعيدة ، كنا في رحلة حول العالم ، و كانت هونج واحدة من محطات الرحلة
مدينة غارقة في الخيال و الجمال
صبيحة يوم ، كان برنامج الخروج هو التسوق في بعض ( المولات) الحديثة
لا تزال دول الخليج ساذجة و لم تعرف بعد ذلك النموذج التجاري المتحضر
بعد تناول إفطار الصباح توجهنا لأشهر تلك المولات و كان في جزيرة غير التي ننزل بفندقها
مضى الوقت سريعا جدا لم نشعر به ، فقرر الجميع العودة للفندق ..
نظرت لوجه أختي الصغرى ( صَيـَدْ ) لمحت به رغبة في البقاء لفترة أطول
(حسنا ، بإمكان الجميع الذهاب ،أما أنا و أختي سنبقى لبعض الوقت) .. هكذا توجهت بحديثي للجميع .. كانت أصوات المعارضة تشتد لرفض هذا الطلب ، فالجميع أصابهم الإعياء و التعب و يودون العودة غير أنهم لا يستطيعون تركنا لوحدنا هناك في بلد من أقصى الشرق قليلا ما تجد بينهم من يتحدث غير لغته الأم .. لم أكن استطع مقاومة رغبة أختي الملحة في البقاء لذا ألححت في الرجاء على أن يعود لنا السائق ليأخذنا بعد ساعة من الزمن .
لم نضيع الفرصة و قمنا بشراء الكثير من الأشياء الشرقية الجميلة من مصدرها ، وفجأة زاد حمل متاعنا على قدرتنا على حمله .. سقط نظرنا على حقيبة تسوق بعجلات و كم التمعت الفرحة في أعيننا حينها فانتزعناها نزعا من البائع و نحن على استعداد لدفع ثمنها مضاعفا
عبأناها بما كنا نحمله و كانت الساعة الموعودة قد انقضت فتركنا المركز التجاري للبحث عن السائق .. جميع الوجوه تتشابه ، كيف لنا أن نميزه وسط ذاك الطوفان البشري ، ربما كانت المهمة أسهل عليه بأن يتعرف علينا .. بقينا في الخارج ساعة ، ساعتين ، ثلاث .. و يمضي الوقت و الليل بدأ يرخي سدوله و لم نعثر على أثر للسائق ..
يجب علينا العودة للفندق إذا بأي وسيلة .. أوقفنا تاكسي أجرة و عرضنا عليه بطاقة الفندق ، و استقلينا التاكسي للعودة ، أوصلنا للمبنى المجاور للفندق و أشار إلى مكان الفندق .. كان بالطبع حوار الطرشان حيث انعدام لغة مشتركة للتفاهم ..
لقد أخذ منا الجهد و الإعياء مأخذا كبيرا فلم نستطع معرفة الفندق و بقينا نجوب الشوارع بحثا عنه حتى انتقلنا لجزيرة أخرى عبر جسر و تهنا في أزقتها و شوارعها المعتمة ، كل هذا يحدث و عقارب الساعة تتسارع نحو منتصف الليل . و نبضاتنا تتسارع إلى أعلى مستوياتها و الرعب يمزق أضلاعنا .. تتناهشنا نظرات أولئك المتوحشين و لا سبيل للحوار معهم في تلك الأزقة الشعبية . كنا الوحيدتين فقط بملامح عربية حنطية بينما الجميع من ذوي العيون الضيقة، أخذنا نقرأ في سرنا كل ما تعلمناه من آيات قرآنية خاصة آواخر سورة البقرة و آية الكرسي و نتظاهر بعدم الاكتراث لما يدور حولنا من كلام و صراخ و حديث لا نفهم تفاصيله بينما يصلنا معناه ، تحدث مازحة لأختي فقلت لها ، لا تجزعي الموت يأتي مرة واحدة فقط ، و ربما أكرمنا هذا الجمع فأصبحنا وليمتهم لهذه الليلة ، كم ستكون مائدتهم عامرة ، كنت أريد أن أخفف من توترها بمزحة هي في حقيقة الأمر محتملة الحدوث بدرجة عالية جدا.. لكنها كانت ( ثقيلة حبتين) حيث رأيت الخوف ينفر من عينيها .. تابعنا سيرنا على غير هدى و نحن نتعمد تجاهل تلك الأيادي التي تمتد لحقيبة تسوقنا ، ربما ينتظرون ردة فعل من أي نوع لسن سكاكينهم الحادة التي كانت تجاور تلك اللحوم المعلقة . .
تابعنا المسير و إذا بخطانا تعيدنا إلى تلك الجزيرة صدفة و كانت الساعة قد قاربت الثالثة صباحا و لم تعد أقدامنا تحملنا لمواصلة المسير ، وقد ابتعدنا فيهذه الجزيرة الراقية عن تلك الأزقة الشعبية المخيفة . اتفقنا على أن نأخذ بعض الراحة لنعاود السير من جديد .. إلى أين ؟؟ لا نعلم ... تفيأنا رصيف شارع و نظرنا لذلك المبنى الموجود أمامنا .. اعترانا شيء من الذهول .. إنه ذات المبنى الذي أنزلنا أمامه صاحب التاكسي هذا المساء ، التفتنا على يمينه و إذا به الفندق الذي ننزل به .. كانت لحظة من امتزاج الشعور ... فرحة ،مفاجأة ،ضحك ، بكاء تلعثم عن الكلام ... هرولنا مسرعتين إلى غرفنا و هناك كان الجميع في حالة وجوم و ترقب و حزن شديد ، لم يقوَ أي منهم على لومنا بعد أن نظروا في هيئاتنا المتهالكة ووجوهنا المرهقة و أعيننا التي أغرقها الدمع .. حتى أننا لم نتمكن من شرح الموقف ، في اليوم التالي لم نستفق من نومنا مبكرا كالعادة ، و لكن في المساء استطعنا سرد قصتنا بالتفصيل الممل مع إضافة البهارات الصينية اللاذعة بالطبع .. الآن نريد مشاهدة ما قمنا بشرائه ، و هنا حدثت المفاجأة الأخرى ، فتلك الأيادي التي امتدت للحقيبة في الزقاق الشعبي تركت لنا ذكرى لا تنسى ، تلك الأحذية الصينية الفلكلورية تبقى من كل زوج فردة واحد فقط ، الهدايا التذكارية تبقى منها القليل ، تركوا لنا بعض الأكياس بعد أن أفرغوها من محتوياتها .. حينها سيطرت علينا موجة ضحك هستيرية ، فلا نحن استمتعنا بتلك الساعة الإضافية و لم يبق لنا من هدايانا إلا القليل و ربما ذاك الذي لا يمكن استخدامه كالأحذية مثلا ، فضلا عن الرعب و الجهد و الإعياء ...
الآن أتذكر تلك الحادثة و أنا أرى الهواتف النقالة تحيط بي من كل حدب و صوب و أقول ، لو أن هذه التكنولوجيا كانت موجودة في ذلك اليوم لما حدث ما حدث ، ثم استرخي قليلا و أقول ، بل حمدا لله أنها لم تكن و إلا لما بقي في شريط الذاكرة موقف طريف كهذا ...