بعد ما يزيد على مائة عام أو أكثر تعود للأضواء من جديد شركة الهند الشرقية لتفتتح لها محلا أنيقا في كوندويت روود في قلب العاصمة البريطانية لندن . دفعني الفضول لزيارة هذا المحل لاجترار التاريخ و مآسيه و عصور الاستعمار و انحسارها لتعود إلينا الآن بثوبها الجديد. ذكرى الحروب العالمية و اكتشاف طريق التوابل و تنافس الغرب على السيطرة على هذه الأقاليم و الحروب التي خاضوها ضد بعضهم البعض أحيانا و دائما ضد شعوب هذه المناطق ، بعض ذلك كان سببه تلك التوابل ! المكان يبدو أنيقا بخزائنه السوداء ذات المقابض الفضية و أرففه الزجاجة التي تتوزع عليها العلب المخملية و المعدنية التي طبعت عليها اللوحات الجميلة ، و أباريق الشاي الفضية أو ما نسميه نحن بـ ( السماور ) أما ما تحتويه تلك العلب فهي توابل هندية ، شاي بألوان و نكهات مختلفة ، شوكلا يدخل في تركيبتها أنواع التوابل المختلفة ، أنواع غريبة من الملح ، وهكذا .. الجميع ينصب في هذه العائلات و أفرادها.
تبهر الزائر أول دخوله هذا المحل ، طاولات كلاسيكية تستعرض أنواع التوابل كنماذج للتعريف و بعضها للتذوق ، رصت بطريقة فنية يخيّل للناظر بأنه يجيل بصره في متحف للأثار الجميلة أو اللوحات الفنية ، على عكس أسواق العطارين التي تبيع البهارات و التوابل في أسواق الشرق ـ هنا لن تتطاير رائحة الفلفل الأسود لتثير العطاس أو تملأ رأس الزائر رائحة الأعشاب العطرة حتى لا يكاد يميز بعضها من بعض . أما البائع فيستقبل الزبون بكل حفاوة و لطف و هو يستعرض ، و بكل برود انجليزي ، تلك البضاعة المعروضة و كأنه لم يخلق من قبلها و لا بعدها مثيلا لها ! سالته من باب الفضول: من هم أكثر زبائنك؟ ( العرب ـ سيدتي ـ خاصة أبناء الخليج ) رد قائلا و ابتسامة خبيثة ترتسم على وجهه فكأنما استقرأ في ملامحنا تلك السحنة الخليجية الصارخة . سألته مرة أخرى و ربما كنت أعرف الإجابة مسبقا لخبرتي بأسلوب هؤلاء : وما هي الأشياء التي يرغبها العرب أكثر؟ ( كل شيء ـ سيدتي ـ كل شيء ، إننا نقوم بتعبئة صناديق كبيرة للشحن ونرسلها إلى حيث يعيشون ) ثم يشير إلى علبة فارغة ترص فيها الشوكلا حسب المذاق الذي يطلبه الزبون و يقول : ( هذه العلبة الأغلى في المحل ، و يرغبها العرب كثيرا ، إنها تحمل لوحة لملكة بريطانيا ، إليزيبيث الأولى ) ! " أمممم أنا لا أحب شراء الملكات " أجبته مازحة .. ( إذا هذه العلبة تناسبك كثيرا فهل تحمل شعار السفن التي كانت تنقل التوابل من القارة الآسيوية إلى هنا ) أضاف ، أما أنا فانتابتني حالة من الامتعاض المر ، ترى هل تلك الذكرى السيئة تستحق أن نحتفي بها و نقتني تذكارا نجتر به آلام تلك الحقبات المظلمة من الاضطهاد؟ صمتُّ قليلا و أنا أكتم حرقة تشتعل في داخلي ، ثم أجبته " و لا تروق لي هذه الذكرى أيضا ، لذا فأنا لن أشتري علبة تحمل رمزا معينا ، أريد هذه العلبة ذات اللون الكحلي دون أي رموز " ـ " كما تشائين سيدتي " أرفق رده بابتسامة رضا ( صفراء ) و كأنما كنت أقرأ حينها ما يدور في نفسه .
كان لا بد أن أعود للمنزل ببعض الأشياء العجيبة على سبيل التجربة ، فاشتريت علبة ملح أسود كالفحم ، شوكلا بالفلفل الحار ، أخرى بالينسون ، مربى برقائق الذهب الأصفر ، و آخر بالتوابل الحارة ، شراب البنفسج ، أنواعا من البسكويت بنكهات توابل مختلفة ، أنواعا من الشاي و لكن .... أنا لا أشرب الشاي ! أنا أحب القهوة ..." لو سمحت أريد قهوة " طلبت من البائع .. " للتو ، سيدتي ، سأقوم بتحضير الاكسبريسو حالا " رد بتلقائية لبقة ، " لا لا أنا أريد أن أشتري قهوة " ــ " توجد لدينا فقط حبات من القهوة المكسوة بالشوكلا ، الكابتشينو ، الاكسبريسو ، و شوكولا الفراولة و. و...و... " أخذ يسرد أنواع حبات القهوة و ليس القهوة التي أريد . " ولكنني أريد قهوة قهوة ، تصلح للتحضير و الشراب " كررت سؤالي بإلحاح . " عذرا منك سيدتي فنحن لا نبيع القهوة هنا لكنني سأحضر لك فنجانا من الاكسبريسو حالا " ـ يبدو أنه مصرّ على أن أتذوق ذلك الفنجان و حينها كنت أنا بأمسّ الحاجة له فلم تصمد مقاومتي طويلا و قبلت عرضه. و ارتشفت القهوة بتأدٍّ شديد و سرحت بعيدا و أنا أتأمل تلك التوابل و الشاي و أتساءل ، ترى هل استحق الشاي و هذه التوابل كل تلك الحروب ؟ تبا لها من توابل عصفت رائحتها بأنوف المستعمرين لتفقدهم صوابهم فخاضوا حروبا شرسة خلفت القتل و الدمار و الاضطهاد و أدخلت المنطقة في حقبات مظلمة من التخلف و الاستبداد انحسرت خلالها كل إضاءة تركها التاريخ و الحضارة التي سجلت أمجاد أجدادنا لنعود لعصر البدء و الضعف و الكثير من التخلف ، و نقف في مؤخرة صفوف الحضارة حين كنا قبل ذلك في مقدمة تلك الصفوف.
تركت فنجان القهوة على الطاولة و خرجت و في جوفي تتصارع مخالب الأسى و علامات الاستفهام ،، أردد :
ألا تبا لتلك التوابل الهدّامة ! و تبا لذلك الشاي القاتل !
اشربوا القهوة كما أنا ، إنها الأجمل و الألذ و الأكثر حميمية و صدقا ، يكفي أن تاريخها لم يكن ملوثا بالدم كالشاي !
ذ