ثورة الياسمين ، ثورة الشعب التونسي ، إسم حضاري يليق بما قام به شعب لا تنقصه حضارة أو ثقافة ، ثورة رسمت ملامح ثورات العصر الحديث التي عكست مدى الوعي الشعبي العربي الذي راهن الجميع عليه ووصفه بالسبات و الخنوع و الخضوع ، لكن ثورة الياسمين جبت كل ما قيل عن هذه الشعوب و أثبتت أن المارد العربي حطم القمقم و بدأ يقذف حممه في وجوه الأنظمة الديناصورية التي صعدت على أكتافه لتتحجر على العروش عقودا من الزمن استشرى فيها الفساد و الاستبداد و ساقت البلاد إلى الدرك الأسفل من الحضارة و الكرامة و الحياة. انطلقت هذه الثورات التي تصدت لرصاص النظام و تدفقت دماء شهدائها الندية لتروي الأرض فينبت منها إصرار و تحدّ و عزيمة ، و تتواصل دون يأس أو رعب كي تحقق أهدافها و تستعيد حريتها و تجتث الفساد الذي تعاني منه أوطانها .
نحن اليوم بصدد ثورات حديثة في المعنى و الواقع ، ثورات تنطلق من جميع مناحي الوطن على امتداده ، من قراه و مدنه ، من أحيائه الغنية و الفقيرة ، من أبنائه بجميع أطيافهم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، ثورات المجاميع التي لا تحتاج إلى قائد تنظيم، فقد وحدتهم الأنظمة الاستبدادية حول مبدأ واحد و شعور واحد و نداء واحد ، ألا وهو إسقاط النظام . لم تعد ثورات الزهور تحتاج إلى ذلك القائد الرمز الذي تنساق خلفه الجموع المنبهرة بشخصيته ، الواثقة برأيه ،المستسلمة لأقواله ، المنفذة دون وعي ما يمليه عليهم . اليوم نعيش نمطا واعيا من الثورات الجماهيرية الذاتية القرار و القيادة و التي أثبتت لأنظمة دولها أنه باستطاعتها إدارة دولتها من الشارع و هي قادرة بالفعل على فعل ذلك. لقد انسحبت الدولة بمؤسساتها الرسمية من شوارع الثورة و ضخت فيها عناصر عصاباتها الإجرامية لتعيث فسادا في الأرض و من عليها غير أن أبناء الثورة تمكنوا و بسرعة فائقة من خلق مؤسسات شعبية لتحل محل المؤسسات الرسمية و تمارس أدوارها بكل اقتدار فتمكنت من ضبط الأمن و النظام و القبض على الخارجين عليه من عناصر النظام الرسمي . و ما يستحق فعلا الإشادة به هو وقوف الجيش إلى جانب أبناء الوطن و التمرد على رأس النظام و هذا في حد ذاته حدث جديد على المجتمع العربي الذي اعتاد أن يرى أن الأمن و الشرطة و الجيش تضحي بكل شيء مقابل حماية الحاكم ، فإذا بها في ثورات الزهور تقف في الجهة المضادة له لتفقده اتزانه و تدفعه للهروب .
الأمر الآخر الذي يستحق الوقوف عنده هو ثورة التكنولوجيا التي هيأت المناخ السليم لسهولة التواصل و التنسيق بين مختلف فئات الشعب بجميع مستوياته و أعماره و على امتداد الكرة الأرضية ، فكل ثورة تنطلق كزلزال في موطنها تصل تردداتها الاهتززية إلى جميع أنحاء العالم فيقوم أبناء ذلك الوطن بقيادة مظاهرات مساندة في أماكن تواجدهم دعما لثورتهم الأم و بذك يوصلون رسالتها إلى شتى أصقاع الأرض بصورة حضارية .
لقد تشابه السيناريو التونسي مع السيناريو المصري بشكل كبير على المستويين الشعبي و الرسمي ، و نحن نشاهد اليوم مشهدا جميلا و رائعا تؤديه ثورة الياسمين التونسية ، مشهد لم يكن يخطر على بال أحد لأنه لم يكن يوما على أرض الواقع في أي بقعة من بقاع الأرض ، الشعب التونسي اليوم يقود مرحلة مهمة و متميزة من مراحل التغيير في بلده ، فلم يكتف أبناء الثورة من تغيير رأس النظام بل استمرت ثورتهم لتحقيق البناء المتكامل لرؤيتهم المستقبلية لتونس الحديثة فهم يقررون اليوم من يريدون في مراكز القرار و يقررون ما يشاءون في تغيير الدستور و ينتظمون بصوت موحد لإقرار ما يرونه بعيدا عن رؤية الأحزاب و قياداتها التي تغلب عليها الرؤية الذاتية و رغبة السلطة و التفرد بالقرار . اليوم يكتب الشعب التونسي الحر سياسته و دستوره و نظام حياته بقلمه هو لا بأقلام اولئك الوصوليين . هذا المشهد نجده اليوم منعكسا في مصر ، مصر التي قادت ثورات الوطن العربي في الخمسينات فإذا بتلك الأنظمة الثورية تتحول إلى ديكتاتوريات بغيضة تنكل بشعوبها و تهين كرامتها و كرامة أوطانها و يطغى عليها الفساد و الاستبداد .
لقد حولت شهوة المال و السلطة تلك الأنظمة الثورية إلى أنظمة قمعية ، فوجهت الرصاص إلى صدور أبناء الشعب و أتخمت السجون بالمثقفين و المعارضين و أصحاب الفكر و الرأي ، و سيّست الإعلام و الأقلام و برمجتها بالترغيب و الترهيب في امتداحها و الثناء عليها حتى وصل الحال إلى ما يشبه إشراكها مع الله في التسبيح و العبادة . كما سعت هذه الأنظمة إلى فرض واقع يخالف مبدأ الثورة فاعتنقت مبدأ التوريث للأبناء و الاستبداد و الاستئثار بثروة الوطن لعائلات الأنظمة التي استحوذت على أغلب مقدرات الشعوب فخلقت التفاوت الطبقي الرهيب في المجتمعات العربية بين طبقتين أحدهما بالغة الثراء و أخرى تقع تحت خط الفقر، وكلا الطبقتين لا تستحق ما هي عليه فثراء طبقة معينة جاء نتيجة إفقار أخرى و التعدي على حقوقها و ممتلكاتها بصفتها طبقة من مجموعة طبقات تشكل النسيج الاجتماعي للبلد ، غير أن استئثار طبقة واحدة بكل شيء و حرمان الأخرى من أغلب الأشياء خلق احتقانا شديدا و أحدث خلالا رهيبا في التوازن الاجتماعي يدعمه الاحباط السياسي و تغييب الحريات و الحقوق الإنسانية ، عوامل اجتمعت متآزرة في تأجيج نيران الغضب و السخط في نفوس أبناء الشعب أخرجه من دائرة الحلم و الصبر إلى شارع الثورة و الحرية لاسترداد ما سلب منه . قال تعالى : ( إنما أموالكم و أولادكم فتنة ) و هذا ما حدث و يحدث لرؤوس أنظمة الحكم حين تحولت اهتماماتهم من مصلحة الوطن إلى جمع الثروة و توريث الأبناء فجروا وبال الأمر على شعوبهم التي وثقت بهم و انتخبتهم فإذا بهم ينكلون بهم و بأوطانهم .
و السؤال المحير ، لماذا اليوم يتواصل سقوط أحجار الدومينو العربية ؟ انفصال في السودان ، ثورة في تونس و اخرى في مصر و اليمن على سطح صفيح ساخن و الجزائر على ذات الدرب و ربما موريتانيا و الأردن على شفا حفرة من السقوط و الاحتقان و الفوضى يضرب في أواصر المغرب و سوريا نار تشتعل من تحت الرماد ، و لبنان تئن من تنافس سياسي يسوق الشارع إلى المواجهات العنيفة ، و العراق تم تدميره و ترك يترنح في برك الدماء و الفتنة الطائفية ، و دول الخليج ليست بمنأى عن كل ذلك بل إن إعلامها يتستر على الكثير كي تبدو آمنة في ظل كل التغيرات ، وويكيليكس كشفت المستور و عرت الوجوه ، و الفوضى العارمة تعم الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه ... ثم ماذا ؟؟
تحدثت صحيفة الديلي تيلغراف حول مؤامرة أمريكية لتغيير النظام الرسمي في مصر ، و ذلك استنادا على وثائق ويكيليكس التي كشفت اعترافات السفيرة الأمريكية بالقاهرةحول تبنيها فئات من المعارضة المصرية و استضافتها أحد رموز هذه المعارضة قبل ثلاثة أعوام في مؤتمر بالولايات المتحدة و قدمته للمؤتمرين على اعتباره يمثل الوجوه الشبابية التي يتم تحضيرها لتولي سدة الحكم في مصر و قد تعرض هذا الناشط للقمع و التعذيب و السجن مما استدعى تدخلا من الولايات المتحدة بإطلاق سراحه .
http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/africaandindianocan/egypt/
8289686/Egypt-protests-Americas-secret-backing-for-rebel-leadersbehind-uprising.html
أيا كان السبب ، فذلك لا يلغي حقيقة تعاني منها الشعوب العربية و هي حالة الاحتقان و القهر الذي تتعرض إليه من قبل أنظمتها الديكتاتورية و ربما كان هذا هو السبب الحقيقي الذي اعتمدت عليه الولايات المتحدة في تبني و مساندة هذه الشعوب على الثورات مضحية بعملائها المخلصين بعد أن أصبحوا منبوذين ممقوتين من قبل شعوبهم ففقدوا شرعيتهم لديهم ، و سقطت أوراقهم اليابسة من العهدة الأمريكية التي لم تعد بحاجة لمؤازرتهم ضد شعوبهم فتركتهم يترنحون لا يجدون أرضا تأويهم بعد أن اعتقدوا أنهم ملكوا الدنيا و ما عليها . ( و سيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون) صدق الله العظيم