بالأمس رحل أحد عمالقة الأدب العربي الحديث -
الشاعر الوجودي سعيد عقل
أرزة لبنانية سامقة – لاهوتي ذاب وجدا في عشق لبنان – له ما له و عليه ما عليه .. سموّ و انزلاق – علوّ و انحدار جناح ملاك و قرن شيطان ولكنه الخالد في صحائف الأدب و الشعر و إزميل الحرف الذي نحت أجمل بيان شعري في العصر الحديث
صباح الجمعة الحزينة طوى الشاعر الإشكالي سعيد عقل مائة عام أو يزيد من صفحات حياته، وخبأها في عيني القمر و أومأ له بالهروب – فغاب بها
سعيد عقل الأديب الفيلسوف اللاهوتي، الشاعر الإشكالي المثير للجدل و جامع المتناقضات الأشهر – كتاب حياته اصطبغ باللونين ، الوردي و الرمادي . ترنّحت عواطفه بين الحب و الكره، السخط و الرضى، العقل و الجنون ، النرجسية و الإيثار ، البراغماتية و الشوفينية. مشاعر متناقضة ربما لا تليق بشاعر مرهف كما هو.
تحدث بنرجسية عن شعره فقال: "أفتخر بأنني كتبت شعرا غير مكتوب في ثلاث لغات تمتلك أجمل شعر في العالم وأعظمه أثينا وروما وفرنسا"
في ديوانه "كما الأعمدة " جاء في قصيدة "سائلين" :
أنا حسبي أنني من جبل هو بين الله والأرض كلام
قمم كالشمس في قسمتها تلد النور وتعطيه الأنام
كتب القصيدة العربية العمودية و المحكية و الفرنسية، و أطربتنا فيروز و هي تتغنى بأرق و أجمل ما كتب من غزل في .الوطن و الحبيبة
ثالوثه المقدس ، الحب و الفخر والوطن، تمثل في قصائده ومسرحياته – فكتب أجمل أناشيد الثورة حين كان عضوا في الحزب السوري القومي الاجتماعي
قال في إحداها:
للنسور ولنا الملعب
والجناحان الخضيبان
بنور العلى والعربِ
ولنا القول الأبي
والسماح اليعربي والسلاح
ولنا هزّ الرماح في الغضوب المشمسِ
ولنا زرع الدنى
قبباً زرق السنا
ولنا صهلة الخيل من الهند الى الأندلسِ
أعجب ذات مرة بإحدى طالبات الجامعة الأمريكية فكتب لها:
سمراء يا حلم الطفولهْ
وتمنّع الشفة البخيله
لا تقربي مني وظلي
فكرة لغدي جميله
تغزل بلبنان تماما كما تغزل بالشام و بغداد و غيرها من بلاد العرب على حد العاطفة و دفء الانتماء و حميمية الوجد. المسيحي الماروني الذي تغنى بـ "مكة" كما لم يتغنى بها مسلم من قبل أو من بعد فقال :
غنيت مكة أهلها الصيدا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
فرحوا فلألأ تحت كل سما
بيت على بيت الهدى زيدا
يا قاريء القرآن صلي لهم
أهلي هناك و طيّب البيدا
من راكع ويداه آنستاه
أن ليس يبقى الباب موصودا
تغنى بلبنان كعاشق مريد وصنع حلما أقرب إلى الأسطورة ،فكتب «لبنان إن حكى»،فأسرف في تمجيد لبنان بشكل أقرب إلى الأساطير والملاحم البطولية ورأى لبنان بلدا فينيقيا ودعى إلى "لبننة" العالم فقال ذات شوفينية أن عرش الرب مبنيٌّ من خشب الأرز
تنكّر في إحدى شطحاته لعروبته وللغته العربية التي وصفها بالميتة و أنكر حركات التشكيل فيها و انتمى لفينيقية غابرة فكتب ديوان يتيما أسماه "يارا" بحروف لاتينية – و كتب شعرا بالفرنسية فما أخلصت له هذه ولا تلك ، فعاد إلى حضن أمه التي أبرزت إبداعه وبها عُرف.
سعيد عقل ، خاصم عقله ذات سقطة لعلّ التاريخ يغفرها له حين بارك الاجتياح الاسرائيلي للبنان و طالب بوضع نصب تذكاري لشارون بأهم ميادين بيروت ممجّدا مجزرتي صبرا و شاتيلا داعيا بيجن إلى " تنظيف" الأرض من كل فلسطيني .تناسى حينها أنه القائل
سيف فليشهر في الدنيا/ و لتصدع أبواق تصدع
الآن الآن و ليس غداً/ أجراس العودة فلتقرع
أنا لا أنساك فلسطين/ و يشد يشد بي البعد
أنا في أفيائك نسرين/ أنا زهر الشوك أنا الورد
سندك ندك الأسوار/ نستلهم ذات الغار
و نعيد الى الدار الدار/ نمحو بالنار النار
فلتصدع فلتصدع أبواق /أجراس تقرع
قد جن دم الأحرار
الآن الآن و ليس غداً/ أجراس العودة فلتقرع
وغابت عن ذاكرته رائعته الشهيرة رائعته الشهيرة "زهرة المدائن" التي تغنّى فيها بالقدس فقال:
الغضب الساطع آتٍ و أنا كلي ايمان
الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان
من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍٍ
و كوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آت
فهذا الشاعر الوجودي الذي اتحدت روحه بلبنان ربما أصابه الرهاب حين رأى حلمه الأسطوري يحترق أمام ناظريه و يكاد يفقد توأمه الذي يعشقه حد السُّكْر،بل لا يكاد يجد ذاته إلا من خلاله و هو الفيلسوف اللاهوتي فأصابته لعنة الشطحات التي أخرجت بعض الصوفية يوما من نور اليقين إلى ضلال الشك والشرك.
انصهرت عاطفته و امتزجت بربوع الشام و تاريخها فكتب الكثير، أشهرها قصيدة "مرّ بي" التي غنتها فيروز ومما قال فيها : " الهوى لحظ شآمية.. رقّ حتى قلته نفدا"
وكتب في قصيدة أخرى
يا شام عاد الصيف متئداً... و عاد بي الجناح
يا شام يا بوابة التاريخ تحرسك الرماح
وكتب أيضا :
شآم يا ذا السيف لم يغبِ
يا كلام المجد في الكتب
قبلك التاريخ في ظلمة
بعدك استولى على الشهبِ
وفي أخرى :
قرأت مجدك في قلبي وفي الكتبِ
شآم ، ما المجد؟ أنتِ المجد لم يغبِ
شآم أرض الشهامات التي اصطبغتْ
بعندمي نمته الشمس منسكبِ
أنزلتُ حبك في آهي فشدّدها
طرِبتُ آها فكنت المجد في طربي
أما أجملها فهي
طالت نوىً وشكى من شوقه الوترُ
خذني بعينيك و اهرب أيها القمرُ
لي فيك يا بردى عهد أعيش به
عمري و يسرقني من حبهِ العمرُ
شآم أهلوك أحبابي و موعدنا
أواخر الصيف، آن الكرم يُعتَصرُ
شآم يا ابنة ماضٍ حاضر أبدا
كأنك السيف مجد القول يُختَصرُ
إن نغفر لسعيد عقل بعض خطاياه، فإنه يستحق منا ذلك – رحل بعد أن أثرى خزائن الأدب العربي المعاصر بـ " أجراس الياسمين " و " دُلزي" و "أجمل منك، لا" و "كمال الأعمدة" و "بنت يفتاح " و " المجدلية" و " قدموس" و "رِندلي" و غيرها الكثير – أحد عمالقة الأدب العربي الذي علّق أشعاره على أستار قلوبنا وأجرى جداول الياسمين في أرواحنا التي ستبقى تحمل إسمه و ذكراه