لغة الضاد .. لغة القرآن و الحكمة ... جسر التواصل الممتد منذ أبد الآبدين إلى يوم الدين ... كلمة الإعجاز و إعجاز الكلمة ... الهوية الصامدة المتحدية للأهوال و قلب الموازين... قلعتنا الشامخة التي نتسور بها في عصر ضياع القيمة و القيم .... عصر العولمة و افتقاد المعايير ... مسخ الهوية واستنساخ التغريب ...
تعترضنا اليوم تحديات جمة ... تحاول اقتلاعنا من جذورنا و سلخنا من عروبتنا ... تأخذنا رياحها العاتية إلى المجهول لدينا و المعلوم لدى الآخرين ..... مؤامرات طمس التاريخ والدين .... تحويل الحقيقة إلى وهم و الوهم إلى حقيقة .... سرقة الأثر الخالد و تزييف الواقع المعاصر..... و يجرفنا تيار الحداثة في لجة الضياع , فنصبح مسيرين بحكم الواقع شئنا ذلك أم أبينا ... و تقتحم ثورة التكنولوجيا و الاختراع حياتنا ..... تضيف ما تضيف وتهدم ما تهدم ..... و تصبح المواجهة الحقيقية مع لغتنا العريقة ..... التي تتوارى مختفية خلف أسوار التعريف و التدليل ... لتحل محلها لغات حديثة تفرض نفسها من خلال مصطلحاتها و برامجها .... و نلهث جميعنا خلفها رغبة منا في مسايرة الركب و الانفتاح العالمي ...
" العالم قرية صغيرة " ... " العالم عائلة واحدة " و غيرها الكثير من التعريفات الحديثة... ظاهرها الخير و باطنها الشر ... السم المغلف بالعسل ... نستعذب فيها شعارات التواصل المثمر و نجهل ما ينطوي خلفها من طمس للهوية و الإرادة و التاريخ و الدين .... ضحيتها الأولى بدون شك هي لغتنا العربية ... تلك التي كرمها الله بأن أنزل بها كتابه المحكم و جعلها لغة حوار أهل الجنة... تلك اللغة التي لاتسمح بالتواصل العالمي من وجهة نظر واضعي تلك الشعارات الزائفة... و ترسيخا لسياسات الذوبان و الاضمحلال التي تمارس علينا كالتنويم المغناطيسي , حتى إذا ما استيقظنا منه .. نرى انفسنا وقد عُـرّينا من رداء العروبة ... من قيم الأخلاق ... ومن ضوابط الدين ... أغراب في بلاد العرب ... نتجذر في ترابها و نتنكر للغتها ... لماذا ؟ لأنها لغة لا تناسب العصر بمفهايم هذا العصر .... و التي ليست من صنعنا نحن , بل من صنع من أرادنا أن نكون مسخرين مسيرين ليس إلا ... واللهم لا اعتراض ...!!
أجيالنا اليوم تنطق بجميع اللغات إلا العربية ... تلك التي تكاد تكون غريبة في موطنها ... وكم من أسباب واهية تبرر هذا التغريب ... فمن لغة عقيمة قديمة , إلى لغة صعبة التفاهم , إلى لغة لاتتماشى و متطلبات العصر ... و الكثير الكثير من المغالطات المرسومة بدقة و يتلقاها شباب هذا الجيل دون وعي أو إدراك ... إضافة إلى انتشار المدارس الخاصة التي تؤسس أساسا على لغات غربية و تصبح اللغة العربية فيها هامشية وربما معدومة ... و تتخرج أجيال الشباب من هذه المدارس لا تعرف كيف تقرأ كتاب الله أو تراثها الأدبي و العلمي الذي أسس العالم كله ....
و ينصب اهتمامها على ارتياد دور السينما التي تمتليء بالأفلام الغربية ... تلك التي تروج لمفاهيم و قيم أبعد ما تكون عن مسارات حياتنا و ثقافتنا و ديننا ... فبدأت تستقي حضارتها بالمفهوم الغربي و بلغته التي تجيدها أكثر من إجادتها للغتها الأم ...
وعندما كانت أوروبا بمجملها تغط في غياهب الجهل و الظلام ... دخلتها الحضارة العربية لتنير لها طريق الحياة ... فدرست علومها التي خلدتها بلغة الضاد ... و فرضت اللغة العربية نفسها علي تلك الأمم ... عصر الحضارة و الإرادة العربية ... و لاعجب أن نرى أرفف المكتبات العالمية تغص بالآلاف من مؤلفات المستشرقين الذين قدروا اللغة العربية حق قدرها فدرسوها و ألفوا بها.... و نقلوا من خلالها جميع العلوم العربية إلى لغاتهم المختلفة ... أليس من العيب بعد أن كانت لغتنا مصدر الحضارة ومنارة الثقافة التي كانت تفرض واقعا حتميا على الغرب , أن تصبح اليوم لغة عقيمة و لا تتناسب مع التطور الحضاري العصري ... و من المسئول عن تغريب هذه اللغة... ! هل من الأجدر أن نستسلم لهذا الواقع المرير أم نستنهض الهمم لحماية هذا الإرث العظيم الذي يكاد أن تطويه آلة الزمن الحديثه .... ؟ من سيقرأ أمهات الكتب التي تشهد بأننا أمة ذات حضارة ممتدة في قدم التاريخ ...؟ من أين نقنع أبنائنا بأنهم نتاج مجد وعراقة ؟ و كيف لنا أن نفخر بشيء لم نستطع أن نحافظ عليه و نتصدى للتحديات التي تحاول مسخه ؟
متى نحاول أاسترجاع المفقود و استحضار الغائب في استنطاق الهوية العربية الخالدة رغم التهميش ... و نشجع أبنائنا و بناتنا في المدارس ... , مختبرات التفريخ و البناء , في استعادة الهوية العربية ... لغة و مجدا و تاريخا و أدبا ... محاولين بقدر الإمكان تعزيز الثقة في نفوس الأجيال بأنهم أبناء حضارة و أن حضارتهم لا تنفصل أبدا عن لغتهم بل تكاد تكون المهيمنة عليها..... وأن هذه اللغة هي التي خلدت ذلك التاريخ الذي يتفرد عالميا بتكامله وعراقته ... و إن الحاضر لا يكون حاضرا إذا ما انفصل عن الماضي ... فمن عبق التاريخ نستلهم أريج الحاضر... و منه نبني صروح المستقبل ...... فالبناء لا يتم إلا على الأساس ..... و لا يستقيم إلا على المتانه والإخلاص .... فالماضي أساس بناء حاضرنا و الحاضر عماد مستقبلنا ... سلسلة متواصلة لا بد أن تظل هكذا و إلا انفرطت حلقاتها و تشتتت في غياهب التغريب المقيت .... و لن نتمكن من دراسة ماضينا العريق إلا من خلال إجلالنا لتلك اللغة التي خلدته إلى هذا الحاضر و ذلك المستقبل ... و إننا باحترامنا و تقديرنا لهذه اللغة ... إنما هو احترام لذواتنا المنبثقة من ذلك التاريخ و ذلك المجد .... و إن اعتزازنا بلغتنا العربية إنما هو اعتزاز بكرامتنا التي تتعرض لعواصف التشتيت و التبديد التي تسبق مرحلة الإقصاء و الإنهاء ... لنعيش مجرد آلات مبرمجة ببرامج ممسوخة و تعاليم مصطنعة... خلقت لتتناسب مع مخططات تدميرية ... تهدف أول ما تهدف إلى هدم تلك الحصون العريقة التي نحتمي بها من ذلك الهجوم الشرس الذي يتجند له الحاقدون و المغرضون .... متسلحين بأقنعة واهية يدللون عليها أحيانا بالعولمة و أخرى بالحرية و أحايين كثيرة بمفاهيم التواصل و التفاهم و التقارب و الاندماج ...
إن لغتنا العربية اليوم تترنح على مقصلة الحضارة المستوردة ... و إذا لم تشحذ الهمم المخلصة للتصدي لذلك المخطط التدميري بتضافر جهود القائمين على تربية الأجيال , و إلا سوف نكون جميعا متعاونين في جريمة لا يغتقر ذنبها .... و ستزهق روح العراقة والتاريخ المخلد ... و ستصبح لغتنا الجميلة ضحية هذا العصر و ضحية التخاذل الذي لم يسبق له مثيل ...
و عليه سوف نساق جميعا إلى ذات المقصلة التي سيعلن منها نهاية أمة لغة الضاد ...